24 أكتوبر 2024
تحولات المشروعية السياسية الفلسطينية
لطالما افتخر الفلسطينيون خلال تجربتهم بوجود التعددية السياسية في الإطار السياسي الفلسطيني، ممثلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتم اعتبار هذه التعددية السياسية الشكل الديمقراطي الفلسطيني المتلائم مع الظروف الفلسطينية الصعبة والقاسية.
وقد أغرى هذا الواقع بعض الفلسطينيين بادّعاء تمايز وهمي عن الشعوب العربية، والحديث عن تقدّم التجربة الفلسطينية على شقيقاتها العربيات، بحكم الوعي السياسي المتقدم للشعب الفلسطيني. واستكانت القيادة الفلسطينية لهذا التحليل الذي يمنح الفلسطينيين، وبالتالي القيادة، مواصفات خاصة، تجعلها تدّعي إنجاز ما لم ينجزه الآخرون.
بالتأكيد، هناك في أية تجربة وطنية سمات خاصة بها، وهذا ينطبق على التجربة الفلسطينية وقسوتها. ولكن من الصعب الحديث عن بنى اجتماعية وثقافية ديمقراطية فلسطينية، تختلف عن محيطها العربي، لأن الشعب الفلسطيني، في نهاية المطاف، يملك السمات ذاتها للشعوب العربية، وإن اختلفت تجربته في سياقها التاريخي، من دون أن يعطي سماتٍ نوعية مختلفة للتجربة الفلسطينية في ما يتعلق بموضوع الديمقراطية تحديداً. وبقي سؤال الشرعية السياسية مطروحا في الساحة الفلسطينية طوال التجربة الفلسطينية. وكان هذا السؤال يُؤجل دائماً بذريعة الظروف الخطرة التي يمر بها الوضع الفلسطيني، وكأن الظرف لم يكن يوماً خطراً على هذا الوضع.
أثر هذا التقييم الجدلي والمفتعل على التجربة السياسية "الديمقراطية" الفلسطينية، إضافة إلى البنية التقليدية للقيادة الفلسطينية، بما فيها اليسار، على الرغم من كل شعاراته في ادعاء تجربة ديمقراطية، وساهم في الحفاظ على شكلية النقاش، بحكم عدم قدرة القيادة الفلسطينية على ضبط الوجود الفلسطيني المشتت في دول عديدة، والذي يخرج عن نطاق سيطرتها، والحفاظ فعلياً على فردية القرار بيد القيادة المتنفذة في منظمة التحرير.
ارتبطت المشروعية السياسية في التجربة الفلسطينية الحديثة بتمثيل منظمة التحرير للشعب
الفلسطيني، بصفتها حركة تحرّر تسعى إلى تحقيق الهدف الذي تمثله. وكما هي الحال بالنسبة لحركات التحرّر الوطنية، كان الهدف الوطني، وليس العملية الديمقراطية أساس المشروعية السياسية للقيادة، والتي لم ينتخب أي منها انتخاباً مباشراً أو غير مباشر، بل ارتبطت بمدى قبول الهدف الوطني الذي تمثله. ويتم الاعتراف بمشروعية هذه الحركات، بعد الاعتراف بمشروعية هدفها، أي حقها بالاستقلال والسيادة الوطنية.
كانت الشرعية السياسية الفلسطينية معنوية، غير مختبرة في صناديق الاقتراع، إنما قائمة على توافق فصائل العمل الوطني في إطار منظمة التحرير، وقد افتقد العمل السياسي قاعدة مركزية جغرافية، ينطلق منها، فتشتت العمل السياسي الفلسطيني، حسب أوضاع الشتات التي يعانيها الشعب الفلسطيني، وتوزع على مناطق مختلفة ومتفاوتة: الضفة الغربية وغزة الواقعتين تحت الاحتلال، التجمع الفلسطيني داخل إسرائيل، التجمعات الفلسطينية في دول الشتات، وانعكس هذا الوضع على العمل السياسي الفلسطيني، ما جعله يعاني من الهشاشة، ويفتقد إلى نظام المحاسبة والمراقبة. وتنقل مركز ثقل العمل السياسي الفلسطيني بين عدة دول، من الأردن إلى لبنان إلى تونس. وعلى الرغم من العيوب التي شابت العمل السياسي الفلسطيني، إلا أن التجربة النضالية الفلسطينية والتحولات التي جرت في السبعينيات ساهمت بتكريس منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وكلما كان هذا الترسيخ يزداد، كانت القيادة تعزّز فرديتها، بالهيمنة على أطر المنظمة. وفي هذا الإطار، تم اختراع نظام التحاصص (الكوتا) بين الفصائل الفلسطينية.
مع الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة نهاية عام 1987، وبعد المأزق السياسي الذي دخله العمل الفلسطيني في الخارج بعد الخروج من بيروت، عاد العمل السياسي إلى موقعه الطبيعي في الأراضي المحتلة. ولأول مرة في التجربة الفلسطينية، انتقل مركز العمل الوطني إلى موقع لا توجد فيه القيادة الفلسطينية. ولكنه استند بهذا الانتقال إلى قاعدة جغرافية ثابتة، وموقع احتكاك دائم مع الاحتلال، وإبداع شكلٍ جديد من المواجهة مع الاحتلال، يعتمد الصدام الجماهيري، ويستبعد الصدام المسلح، ما حيّد التفوق العسكري الإسرائيلي. وتم استخلاص الشعار الواقعي في إطار المواجهات الجماهيرية مع الاحتلال "الحرية والاستقلال". وبقيت منظمة التحرير تمثل أهداف الشعب في مقولة التحرّر الوطني، على الرغم من هذا الانتقال.
تزامن وصول الانتفاضة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال إلى طريق مسدود مع انهيار النظام العربي في حرب الكويت، وانهيار موقع منظمة التحرير فيه. ودفع هذا الوضع المنظمة إلى البحث عن موطئ قدم في خارطة المنطقة التي أخذت تتشكل بعد حرب الخليج الثانية، مع إطلاق عملية السلام في مدريد التي تجاهلت منظمة التحرير، فما كان من الأخيرة إلا الدخول إلى التسوية عبر الوفد الأردني، وبطريقة غير مباشرة، وما لبثت أن أدخلت مباشرة عبر مفاوضات أوسلو.
وكان ما أقدمت عليه منظمة التحرير نقيضاً تجريبياً للصورة التي رسمتها لنفسها خلال السنوات السابقة. وقد جعل هذا الدخول الموارب في عملية التسوية منظمة التحرير تدفع ثمناً باهظاً
للحفاظ على وجودها. بتوقيع اتفاق مجحفٍ، ومن وراء ظهر الشعب الفلسطيني، استند أساساً على اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل من دون أي شرط، واعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير من دون الاعتراف بمشروعية هدفها السياسي. وبذلك، أخذت المفاوضات طريقها من دون الاعتراف بأن الاستقلال الفلسطيني هدف هذه المفاوضات.
بذلك، تحول الأساس في المشروعية السياسية من المشروع الكفاحي الوطني إلى العملية السياسية. وبناء عليه، وصفت القيادة الفلسطينية هذا المشروع في إطار العملية السلمية التي صممت أصلاً لصالح إسرائيل. ولم تعد تشتق مشروعيتها من الهدف الذي بنت تاريخها عليه، إنما أصبحت تشتقها من العملية السياسية ذاتها. وهذا هو الثمن الذي دفعته القيادة الفلسطينية جرّاء الدخول في العملية السياسية، والتكيّف مع المتغيرات في المنطقة بعد حرب الخليج.
والترجمة العملية لهذا التكيّف هو تحوّل القيادة الفلسطينية إلى سلطةٍ في ظل السيادة الإسرائيلية. وكانت العملية الانتخابية في 1996 المحاولة الفلسطينية للبحث عن مشروعية أخرى، مع تهميش منظمة التحرير، وظهر وكأنها الانتخابات الأولى والأخيرة، لولا وفاة الرئيس ياسر عرفات التي فرضت انتخابات رئاسية 2005، ومن ثم تشريعية 2006، والتي شاركت فيها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وحازت أغلبيةً في المجلس التشريعي. بعد الانتخابات، تبين بوضوح أن الانتخابات جزء من الصراع الداخلي الفلسطيني، وليست وسيلة لتنظيم الصراع والقبول بنتائجها. لأنه سرعان ما انفجر صراع دموي في غزة 2007، وانقسمت الأراضي الفلسطينية، إذ سيطرت "حماس" على قطاع غزة، وسيطرت حركة فتح على الضفة الغربية، وانتهت وظيفة الانتخابات، وعاد الطرفان ليبحثا عن شرعيةٍ مختلفة، "حماس" عبر القول إنها تمثل المقاومة، و"فتح" عبر استعادة منظمة التحرير بوصفها ممثلا للفلسطينيين.
تحطمت المشروعية السياسية للطرفين بانفجار الصدام المسلح بين الطرفين في غزة، حيث تفكّك المشروع الوطني الفلسطيني، ولم تنجح العملية الديمقراطية في الحفاظ على العمل السياسي موحدا، ضمن أطر يعمل داخلها الجميع. ومع هذا التحطم، دخلت القضية الفلسطينية مرحلة تراجع جديدة، عنوانها الانقسام الذي يدمي الساحة الفلسطينية منذ عشر سنوات، والذي ما دام قائماً، يُفقد الجميع مشروعيتهم، من دون التوافق على المشروع الوطني الفلسطيني.
وقد أغرى هذا الواقع بعض الفلسطينيين بادّعاء تمايز وهمي عن الشعوب العربية، والحديث عن تقدّم التجربة الفلسطينية على شقيقاتها العربيات، بحكم الوعي السياسي المتقدم للشعب الفلسطيني. واستكانت القيادة الفلسطينية لهذا التحليل الذي يمنح الفلسطينيين، وبالتالي القيادة، مواصفات خاصة، تجعلها تدّعي إنجاز ما لم ينجزه الآخرون.
بالتأكيد، هناك في أية تجربة وطنية سمات خاصة بها، وهذا ينطبق على التجربة الفلسطينية وقسوتها. ولكن من الصعب الحديث عن بنى اجتماعية وثقافية ديمقراطية فلسطينية، تختلف عن محيطها العربي، لأن الشعب الفلسطيني، في نهاية المطاف، يملك السمات ذاتها للشعوب العربية، وإن اختلفت تجربته في سياقها التاريخي، من دون أن يعطي سماتٍ نوعية مختلفة للتجربة الفلسطينية في ما يتعلق بموضوع الديمقراطية تحديداً. وبقي سؤال الشرعية السياسية مطروحا في الساحة الفلسطينية طوال التجربة الفلسطينية. وكان هذا السؤال يُؤجل دائماً بذريعة الظروف الخطرة التي يمر بها الوضع الفلسطيني، وكأن الظرف لم يكن يوماً خطراً على هذا الوضع.
أثر هذا التقييم الجدلي والمفتعل على التجربة السياسية "الديمقراطية" الفلسطينية، إضافة إلى البنية التقليدية للقيادة الفلسطينية، بما فيها اليسار، على الرغم من كل شعاراته في ادعاء تجربة ديمقراطية، وساهم في الحفاظ على شكلية النقاش، بحكم عدم قدرة القيادة الفلسطينية على ضبط الوجود الفلسطيني المشتت في دول عديدة، والذي يخرج عن نطاق سيطرتها، والحفاظ فعلياً على فردية القرار بيد القيادة المتنفذة في منظمة التحرير.
ارتبطت المشروعية السياسية في التجربة الفلسطينية الحديثة بتمثيل منظمة التحرير للشعب
كانت الشرعية السياسية الفلسطينية معنوية، غير مختبرة في صناديق الاقتراع، إنما قائمة على توافق فصائل العمل الوطني في إطار منظمة التحرير، وقد افتقد العمل السياسي قاعدة مركزية جغرافية، ينطلق منها، فتشتت العمل السياسي الفلسطيني، حسب أوضاع الشتات التي يعانيها الشعب الفلسطيني، وتوزع على مناطق مختلفة ومتفاوتة: الضفة الغربية وغزة الواقعتين تحت الاحتلال، التجمع الفلسطيني داخل إسرائيل، التجمعات الفلسطينية في دول الشتات، وانعكس هذا الوضع على العمل السياسي الفلسطيني، ما جعله يعاني من الهشاشة، ويفتقد إلى نظام المحاسبة والمراقبة. وتنقل مركز ثقل العمل السياسي الفلسطيني بين عدة دول، من الأردن إلى لبنان إلى تونس. وعلى الرغم من العيوب التي شابت العمل السياسي الفلسطيني، إلا أن التجربة النضالية الفلسطينية والتحولات التي جرت في السبعينيات ساهمت بتكريس منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وكلما كان هذا الترسيخ يزداد، كانت القيادة تعزّز فرديتها، بالهيمنة على أطر المنظمة. وفي هذا الإطار، تم اختراع نظام التحاصص (الكوتا) بين الفصائل الفلسطينية.
مع الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة نهاية عام 1987، وبعد المأزق السياسي الذي دخله العمل الفلسطيني في الخارج بعد الخروج من بيروت، عاد العمل السياسي إلى موقعه الطبيعي في الأراضي المحتلة. ولأول مرة في التجربة الفلسطينية، انتقل مركز العمل الوطني إلى موقع لا توجد فيه القيادة الفلسطينية. ولكنه استند بهذا الانتقال إلى قاعدة جغرافية ثابتة، وموقع احتكاك دائم مع الاحتلال، وإبداع شكلٍ جديد من المواجهة مع الاحتلال، يعتمد الصدام الجماهيري، ويستبعد الصدام المسلح، ما حيّد التفوق العسكري الإسرائيلي. وتم استخلاص الشعار الواقعي في إطار المواجهات الجماهيرية مع الاحتلال "الحرية والاستقلال". وبقيت منظمة التحرير تمثل أهداف الشعب في مقولة التحرّر الوطني، على الرغم من هذا الانتقال.
تزامن وصول الانتفاضة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال إلى طريق مسدود مع انهيار النظام العربي في حرب الكويت، وانهيار موقع منظمة التحرير فيه. ودفع هذا الوضع المنظمة إلى البحث عن موطئ قدم في خارطة المنطقة التي أخذت تتشكل بعد حرب الخليج الثانية، مع إطلاق عملية السلام في مدريد التي تجاهلت منظمة التحرير، فما كان من الأخيرة إلا الدخول إلى التسوية عبر الوفد الأردني، وبطريقة غير مباشرة، وما لبثت أن أدخلت مباشرة عبر مفاوضات أوسلو.
وكان ما أقدمت عليه منظمة التحرير نقيضاً تجريبياً للصورة التي رسمتها لنفسها خلال السنوات السابقة. وقد جعل هذا الدخول الموارب في عملية التسوية منظمة التحرير تدفع ثمناً باهظاً
بذلك، تحول الأساس في المشروعية السياسية من المشروع الكفاحي الوطني إلى العملية السياسية. وبناء عليه، وصفت القيادة الفلسطينية هذا المشروع في إطار العملية السلمية التي صممت أصلاً لصالح إسرائيل. ولم تعد تشتق مشروعيتها من الهدف الذي بنت تاريخها عليه، إنما أصبحت تشتقها من العملية السياسية ذاتها. وهذا هو الثمن الذي دفعته القيادة الفلسطينية جرّاء الدخول في العملية السياسية، والتكيّف مع المتغيرات في المنطقة بعد حرب الخليج.
والترجمة العملية لهذا التكيّف هو تحوّل القيادة الفلسطينية إلى سلطةٍ في ظل السيادة الإسرائيلية. وكانت العملية الانتخابية في 1996 المحاولة الفلسطينية للبحث عن مشروعية أخرى، مع تهميش منظمة التحرير، وظهر وكأنها الانتخابات الأولى والأخيرة، لولا وفاة الرئيس ياسر عرفات التي فرضت انتخابات رئاسية 2005، ومن ثم تشريعية 2006، والتي شاركت فيها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وحازت أغلبيةً في المجلس التشريعي. بعد الانتخابات، تبين بوضوح أن الانتخابات جزء من الصراع الداخلي الفلسطيني، وليست وسيلة لتنظيم الصراع والقبول بنتائجها. لأنه سرعان ما انفجر صراع دموي في غزة 2007، وانقسمت الأراضي الفلسطينية، إذ سيطرت "حماس" على قطاع غزة، وسيطرت حركة فتح على الضفة الغربية، وانتهت وظيفة الانتخابات، وعاد الطرفان ليبحثا عن شرعيةٍ مختلفة، "حماس" عبر القول إنها تمثل المقاومة، و"فتح" عبر استعادة منظمة التحرير بوصفها ممثلا للفلسطينيين.
تحطمت المشروعية السياسية للطرفين بانفجار الصدام المسلح بين الطرفين في غزة، حيث تفكّك المشروع الوطني الفلسطيني، ولم تنجح العملية الديمقراطية في الحفاظ على العمل السياسي موحدا، ضمن أطر يعمل داخلها الجميع. ومع هذا التحطم، دخلت القضية الفلسطينية مرحلة تراجع جديدة، عنوانها الانقسام الذي يدمي الساحة الفلسطينية منذ عشر سنوات، والذي ما دام قائماً، يُفقد الجميع مشروعيتهم، من دون التوافق على المشروع الوطني الفلسطيني.