31 أكتوبر 2024
تحولات السلوك الاحتجاجي العربي
احتضنت مدينة الحمامات في تونس، أخيرا، مؤتمرا نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن الحركات الاجتماعية والاحتجاج العربية. ويعكس تنظيم المؤتمر الأهمية المتصاعدة والدالة التي بات يحتلها موضوع الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في مختلف مباحث الاجتماع السياسي العربي المعاصر، خصوصا في ضوء الديناميات التي ولّدتها الثورات العربية في البنيات الذهنية والثقافية والاجتماعية، على الرغم مما آلت إليه معظم هذه الثورات من انتكاسة.
انصبّت بعض أشغال المؤتمر على السياقات المولدة للحركات الاجتماعية والإكراهات التي تواجهها في ظل السلطوية العربية، ومضامينها السياسية والمطلبية، في حين انصبّت محاور أخرى على مساءلة الجوانب ذات الصلة بتعبئة الموارد والرموز، والتنظيم، والفضاء العمومي، ودور ذلك كله في بناء الخطاب الاحتجاجي وتطويره. كما خُصصت أوراق لبحث العلاقة بين هذه الحركات والانتقال الديمقراطي، لا سيما فيما يتعلق بتأمين المسار الانتقالي، وتحصينه من أي انزلاقاتٍ قد تكون هذه الحركات مسؤولة عنها بشكل أو بآخر. كما حظيت الملامح الجديدة لهذه الحركات باهتمام أوراق أخرى، من خلال ربطها بقضايا المرأة والجندر والشباب، وتوزيع الأدوار داخل النظام الاجتماعي العربي.
أجمعت المداخل التفسيرية والتحليلية للأوراق والبحوث، تقريبا، على اعتبار هذه الحركات أحد العناوين الكبرى لحالة المخاض التي تعيشها المجتمعات العربية، بعد إفلاس الدولة الوطنية وإخفاقها في إيجاد حل للمعضلات المتراكمة ذات الصلة بالمشاركة والديمقراطية والتنمية.
تحوّل الاحتجاج إلى جزء من الثقافة السياسية الجديدة التي تخترق النظام الاجتماعي، وإن
ْ بدرجات متفاوتة، ولم يعد يقع ضمن التابوهات السياسية التقليدية، بعد أن تهاوت جدران الخوف على امتداد الخريطة العربية. صحيح أن الانعطافة المأساوية التي عرفتها الثورات العربية، خلال السنوات الأربع الماضية، جعلت إيقاع هذه الحركات يخفت قليلا، لكن ذلك لا يبدو أنه سيمنعها من توليد سيرورات جديدة، تعكس حالة المخاض الكبرى التي تشهدها مجتمعاتنا.
قد يبدو وضع الاحتجاج العربي على ضوء بعض أدبيات سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية مؤشرا على تراجع إيقاعه، على المدى القريب، لا سيما فيما يتعلق بمقترب الفرص السياسية الذي يربط نجاح هذه الحركات بمدى قدرتها على استغلال الفرص التي يولدها السياقان، الإقليمي والدولي. بمعنى أن الفرص التي أتاحتها الثورات العربية، قبل سبع سنوات، لهذه الحركات لم تعد قائمة، بعد أن استعادت قوى الثورة المضادة المبادرة، وأجهزت على موجة الاحتجاجات العارمة التي انطلقت مع نهاية سنة 2010 وبداية سنة 2011. وبالتالي، قد يبدو انحياز قطاعات واسعة من المجتمعات العربية للاستقرار بدل ''الانجرار'' إلى خيارات غير واضحة، أو محفوفة بالمآزق، انعكاسا طبيعيا للتحول في ميزان القوى في المنطقة. بيد أن مقاربة هذا الاحتجاج، وفق مقاربات أخرى، قد يقود إلى آفاق تحليلية أخرى، خصوصا فيما يرتبط بقدرتها المتصاعدة على تعبئة مختلف الموارد، وانحيازها إلى خيار السلمية، وبروز قيادات ميدانية في صفوفها لم تخرج من رحم الأحزاب والنقابات والنخب التقليدية، وصار ذلك كله يشكل تحديا بالغا بالنسبة للسلطوية العربية المرتهنة لثقافة سياسية عتيقة تقوم على الخوف والامتثال لكل ما يصدر عن السلطة ومؤسساتها.
في الصدد نفسه، يؤشر هذا الاحتجاج الجديد على إفلاس مؤسسات الوساطة، وعجزها عن
القيام بأدوارها التقليدية، في تصريف الاحتقانين، الاجتماعي والسياسي، واجتراح بدائل تجنّب المجتمع هزات كبرى. استنفدت هذه المؤسسات صلاحيتها التنظيمية والسياسية، وصارت عبئا سياسيا ومجتمعيا. وبما أن السياسة، مثل الطبيعة، لا تقبل الفراغ، كان منتظرا أن تفرز المجتمعات العربية ديناميات بديلة، خصوصا في ظل الأدوار السياسية والاجتماعية التي أصبح يلعبها الإعلام الجديد على مستويي التعبئة والتحشيد.
أصبح انتشار ثقافة الاحتجاج داخل النسيج الاجتماعي مقلقا بالنسبة للأنظمة العربية، لأنه يعكس رهانا سياسيا واجتماعيا على قدر كبير من الدلالة، فهذه الأنظمة تعتبر أن أي تغيير سياسي أو اجتماعي، مهما كان حجمه وطبيعته، يجب أن ينطلق من الأعلى في اتجاه الأسفل، ليبدو وكأنه هبة من السلطة لرعاياها، وبالتالي يصبح ذلك أحد موارد شرعيتها. لكن بلورة ديناميات تغييرية من الأسفل، في شكل احتجاجات أو مبادرات مجتمعية ومدنية، من شأنه، ليس فقط، خلخلة المعادلات التي يقوم عليها الحقل السياسي الرسمي، بل أيضا تهديد هذه الشرعية، إن لم نقل تقويضها على المدى البعيد، في ضوء التراجع المهول للقدرات التوزيعية لهذه الأنظمة.
لم يعد السلوك الاحتجاجي مجرد شأن سياسي واجتماعي، يخص تطلّع شعوبنا نحو الحرية والكرامة والديمقراطية، بقدر ما أصبح أيضا أحد التحديات الكبرى المطروحة أمام مختلف تخصصات العلوم الاجتماعية في العالم العربي. فالإحاطةُ به وفهمُ الميكانزمات التي تحكمه وتوجهه، ومساءلةُ تمظهراته، كل ذلك سيساهم، لا شك، في إنتاج معرفة علمية أكثر ارتباطا بتحولاته.
انصبّت بعض أشغال المؤتمر على السياقات المولدة للحركات الاجتماعية والإكراهات التي تواجهها في ظل السلطوية العربية، ومضامينها السياسية والمطلبية، في حين انصبّت محاور أخرى على مساءلة الجوانب ذات الصلة بتعبئة الموارد والرموز، والتنظيم، والفضاء العمومي، ودور ذلك كله في بناء الخطاب الاحتجاجي وتطويره. كما خُصصت أوراق لبحث العلاقة بين هذه الحركات والانتقال الديمقراطي، لا سيما فيما يتعلق بتأمين المسار الانتقالي، وتحصينه من أي انزلاقاتٍ قد تكون هذه الحركات مسؤولة عنها بشكل أو بآخر. كما حظيت الملامح الجديدة لهذه الحركات باهتمام أوراق أخرى، من خلال ربطها بقضايا المرأة والجندر والشباب، وتوزيع الأدوار داخل النظام الاجتماعي العربي.
أجمعت المداخل التفسيرية والتحليلية للأوراق والبحوث، تقريبا، على اعتبار هذه الحركات أحد العناوين الكبرى لحالة المخاض التي تعيشها المجتمعات العربية، بعد إفلاس الدولة الوطنية وإخفاقها في إيجاد حل للمعضلات المتراكمة ذات الصلة بالمشاركة والديمقراطية والتنمية.
تحوّل الاحتجاج إلى جزء من الثقافة السياسية الجديدة التي تخترق النظام الاجتماعي، وإن
قد يبدو وضع الاحتجاج العربي على ضوء بعض أدبيات سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية مؤشرا على تراجع إيقاعه، على المدى القريب، لا سيما فيما يتعلق بمقترب الفرص السياسية الذي يربط نجاح هذه الحركات بمدى قدرتها على استغلال الفرص التي يولدها السياقان، الإقليمي والدولي. بمعنى أن الفرص التي أتاحتها الثورات العربية، قبل سبع سنوات، لهذه الحركات لم تعد قائمة، بعد أن استعادت قوى الثورة المضادة المبادرة، وأجهزت على موجة الاحتجاجات العارمة التي انطلقت مع نهاية سنة 2010 وبداية سنة 2011. وبالتالي، قد يبدو انحياز قطاعات واسعة من المجتمعات العربية للاستقرار بدل ''الانجرار'' إلى خيارات غير واضحة، أو محفوفة بالمآزق، انعكاسا طبيعيا للتحول في ميزان القوى في المنطقة. بيد أن مقاربة هذا الاحتجاج، وفق مقاربات أخرى، قد يقود إلى آفاق تحليلية أخرى، خصوصا فيما يرتبط بقدرتها المتصاعدة على تعبئة مختلف الموارد، وانحيازها إلى خيار السلمية، وبروز قيادات ميدانية في صفوفها لم تخرج من رحم الأحزاب والنقابات والنخب التقليدية، وصار ذلك كله يشكل تحديا بالغا بالنسبة للسلطوية العربية المرتهنة لثقافة سياسية عتيقة تقوم على الخوف والامتثال لكل ما يصدر عن السلطة ومؤسساتها.
في الصدد نفسه، يؤشر هذا الاحتجاج الجديد على إفلاس مؤسسات الوساطة، وعجزها عن
أصبح انتشار ثقافة الاحتجاج داخل النسيج الاجتماعي مقلقا بالنسبة للأنظمة العربية، لأنه يعكس رهانا سياسيا واجتماعيا على قدر كبير من الدلالة، فهذه الأنظمة تعتبر أن أي تغيير سياسي أو اجتماعي، مهما كان حجمه وطبيعته، يجب أن ينطلق من الأعلى في اتجاه الأسفل، ليبدو وكأنه هبة من السلطة لرعاياها، وبالتالي يصبح ذلك أحد موارد شرعيتها. لكن بلورة ديناميات تغييرية من الأسفل، في شكل احتجاجات أو مبادرات مجتمعية ومدنية، من شأنه، ليس فقط، خلخلة المعادلات التي يقوم عليها الحقل السياسي الرسمي، بل أيضا تهديد هذه الشرعية، إن لم نقل تقويضها على المدى البعيد، في ضوء التراجع المهول للقدرات التوزيعية لهذه الأنظمة.
لم يعد السلوك الاحتجاجي مجرد شأن سياسي واجتماعي، يخص تطلّع شعوبنا نحو الحرية والكرامة والديمقراطية، بقدر ما أصبح أيضا أحد التحديات الكبرى المطروحة أمام مختلف تخصصات العلوم الاجتماعية في العالم العربي. فالإحاطةُ به وفهمُ الميكانزمات التي تحكمه وتوجهه، ومساءلةُ تمظهراته، كل ذلك سيساهم، لا شك، في إنتاج معرفة علمية أكثر ارتباطا بتحولاته.