تحديات فهم الدولة المدنية عربياً

14 يناير 2016
لا وجود لدولة مدنية بدون مجتمع مدني حر(فرانس برس)
+ الخط -

خلق مفهوم الدولة المدنية جدلا واسعا بالعالم العربي خلال السنوات الأخيرة، خصوصا أنه كان في قلب الحراك السياسي والتغييرات التي تلته، ومع تزايد الحديث عن طبيعة وماهية الدولة يصبح التساؤل عن الدولة المدنية مشروعا ويحتاج الغوص بعمق في حيثياتها وإطارها الفكري بعيدا عن المزايدات السياسية الضيقة.


فالدولة حسب تعريف جان جاك روسو هي المجال الذي يحقق فيه الإنسان بعده الكوني بوجود حقوق الإنسان، والكيان المتجسد في مساحة جغرافية وشعب وسلطة ذات سيادة معترف بها، كما أن اختصاصاتها محدودة في المجال العام المشترك.

أما الدولة المدنية، فنجد أن الأدبيات الغربية تشير إلى الحالة المدنية المناقضة لحالة الطبيعة الأولى التي عاش فيها الإنسان قبل أن توجد الدولة، وأن تعبير الدولة المدنية هو تمييز عن الدولة العسكرية أو الدينية، حيث يدير الحاكم المدني شؤون الدولة ولا تمتد سلطته إلى أشكال العبادة والإيمان حسب تعبير الفيلسوف البريطاني جون لوك.

على الجانب العربي، عرفت الدولة المدنية كأرضية مشتركة وتوافقية بين الفرقاء السياسيين للتعايش والاندماج المجتمعي، تقوم على أساس المواطنة والحقوق المدنية والمبادئ الديمقراطية.

وقد استعملت الدولة المدنية من مختلف التيارات السياسية إبان الحراك العربي في صيغ مختلفة: دولة مدنية بمرجعية دينية، دولة مدنية بخلفية عسكرية، دولة مدنية ليبرالية، أو كذلك دولة مدنية علمانية، لكن الملاحظ أن هذه الشعارات رفعت لإرضاء الناس وفي العديد من الأحيان للإلهاء العام لإبعاد الشعوب عن ما دار بين القوى السياسية وأجهزة الدولة العميقة، وكذلك ما دار بينها وبين القوى الإقليمية والدولية، فلم يقدم أي فصيل سياسي تعريفاً محدداً للدولة المدنية ومعناها بالنسبة له، الأمر الذي يؤدي إلى اختلافات عميقة في مسألة التطبيق وإدارة الدولة.

وبناء على ما سبق ولفهم دقيق لشروط الدولة المدنية، وجبت مقارنتها بالدولة الدينية والعسكرية. تختلف الدولة المدنية عن الدولة الدينية الثيوقراطية، فالأولى مهيكلة وموزعة بشكل متوازن يحفظ من استحواذ السلطة لدى فرد أو مجموعة بعينها، كما تنكب الدولة المدنية على إدارة الشأن العام دون الاكتراث إلى المجال الخاص لا سيما القضايا الدينية، فالفرد نواة المجتمع يتمتع بكافة حقوقه ويلتزم بواجباته في المواطنة.

ومما يلاحظ في هذا الشأن، اعتبار الدولة المدنية كمدخل خلفي للدولة العلمانية، إلا أن ربط العلمانية بالإلحاد أحيانا وبالموروث الاستعماري أحيانا أخرى يجعل تقبلها صعبا في العديد من البنيات المجتمعية وعلى رأسها المجتمع العربي.

وعلى النقيض من ذلك، فالدولة الدينية لا تفرق بين المجال العام والخاص وتدخلاتها في المسائل الخاصة واجب ديني، فنجد أن ولي الأمر المفوض من الذات الإلهية يحتكر كل السلطات، يوظف المقدس ويحتمي بصورة المعصومية كحارس على الممارسة الدينية ويطالبهم بالمساندة في المنشط والمكره.

على صعيد أخر، إذا كانت الدولة المدنية تنشأ على المرونة في التنظيم ومؤسسات ناجعة يرجع إليها للوصل والفصل في الشؤون العامة، فالدولة العسكرية تتبنى المنطق الهرمي في الإدارة والنظام الشمولي في الحكم وتبسط سيطرتها بجعل الاستثناء قاعدة، حيث تجمد القوانين المدنية ويتم اللجوء إلى قضاء عسكري وقوانين مجحفة، الأمر الذي من شأنه اغتيال الحريات العامة والفردية واحتكار التسيير بتصنيف المواطنين إلى موالين أو خونة وفقا لمعايير القائد.

ويمكننا تفسير أواصر الدولة المدنية عبر مجموعة من الممارسات المؤسسة لها، أولا إرساء نظام ديمقراطي يقوم على دستور متوافق عليه، يوضح أدوار ومسؤوليات الدولة وينظم السلطة في إطار التداول السلمي على الحكم وضمان التعددية الحزبية والمشاركة السياسية.

ومن بين هذه الممارسات سيادة القانون عبر اكتساب النظام لشرعية الاستحقاقات الانتخابية ومشروعية الرضا الشعبي، ثم عن طريق الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء بما يكفل الزام المسؤولية بالمساءلة والمحاسبة وإقامة قواعد رقابية وإجراءات فاعلة لضبط وربط معادلة الحرية والأمن.

إضافة إلى المواطنة المكرسة للحقوق العامة والحريات الفردية وأهمها الحقوق المدنية والسياسية وحرية الرأي والتعبير، وعلى المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص والشفافية، بما يحقق التنمية والعدالة الاجتماعية.

علاوة على ما سبق، فلا وجود لدولة مدنية بدون مجتمع مدني حر ومستقل يعمل على تخليق الحياة العامة، ووضع رقابة مجتمعية وقوة اقتراحية تغني الرصيد القيمي والأخلاقي في المجتمع، كما يسعى إلى توطيد مكتسبات الوعي الشعبي وصناعة رأي عام عربي يرتقي إلى القيم الديمقراطية.

وبالموازاة، يحتاج بناء الدولة المدنية الحديثة إلى تغيير فلسفة مؤسساتها من خلال إعادة تعريفها وتوضيح معاني وجودها، ناهيك عن إشراك الفاعل الشبابي باعتباره وقود التغيير.

(المغرب)

المساهمون