تصطدم استراتيجية الولايات المتحدة للحفاظ على الرخاء الذي حققته بعالم مضطرب قد يؤثر على مصالحها، ورغم نجاح أميركا في بناء علاقات اقتصادية قوية مع مختلف دول العالم، إلا أن هناك مخاطر محلية ودولية تهدّد مستقبلها، منها تحديات سوق العمل وزيادة الديون الحكومية، وبروز مؤسسات دولية مثل بنك آسيا الذي أسسته الصين لمنافسة المؤسسات المالية الدولية، وتصاعد الاضطرابات في العديد من مناطق العالم التي تتمتع بشراكة اقتصادية معها.
ويأتي ذلك في الوقت الذي يسعى فيه المتنافسان بالانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، إلى التأكيد على الدور الأفضل لأميركا في العالم، باعتبار السلطة والسياسة الاقتصادية لهما مكانة مهمة في أي تصور لدور الولايات المتحدة في العالم.
وبالرغم من تعافي الولايات المتحدة مع بداية عام 2016 من آثار الركود الكبير الذي أصابها (منذ ديسمبر/كانون الأول 2007 وحتى يونيو/حزيران 2009)؛ فإن الاقتصاد الأميركي لا يزال يواجه تحديات معتبرة؛ خاصة في محاولة ضمان أن تصل المكاسب الاقتصادية إلى جميع أفراد المجتمع، وفي توفير الحماية ضد المشاكل المالية على المدى الطويل، حسب محللين.
وفي هذا السياق، لا تزال أميركا تواجه اثنين من نقاط الضعف على المستوى المحلي والتي قد تعوق قدرتها على تحقيق إنجاز قوي لاستراتيجية دولية هما: تحديات سوق العمل، وخطر تصاعد الديون الحكومية.
وتكشف دراسة حديثة صادرة عن مؤسسة "راند" الأميركية الشهيرة بعنوان "استراتيجية الولايات المتحدة الاقتصادية الدولية في عالم مضطرب"، عن الارتباط الأميركي القوي بالاقتصاد العالمي، وأنه أمر ضروري للحفاظ على رخاء الولايات المتحدة وزعامتها.
ولذا يتحتم عليها أن تقف متأهبة لكسب المزيد عن طريق تعزيز وتقوية المؤسسات العالمية، والقواعد الدولية التي تحكم التجارة والاستثمار المباشر والمساعدة الإنمائية، وكذلك التعامل مع القوى الصاعدة بدلاً عن تلك المتراجعة، حسب الدراسة.
لكن تطوير هياكل مثل قواعد متعددة الأطراف لتنظيم أشكال جديدة من التجارة والاستمرار في تحرير التجارة واسعة النطاق هو أمر مستفز أيضا، فالقوى الصاعدة تطمح إلى مزيد من النفوذ والتأثير في منظمات مثل صندوق النقد الدولي، وأيضا إنشاء مؤسسات جديدة مثل منظمة البنية التحتية الآسيوية وبنك الاستثمار؛ والتي يمكن أن تنافس المؤسسات الحالية.
ويقول كاتب التقرير وكبير الاقتصاديين في مؤسسة راند، هوارد شاتز، "يجب على الولايات المتحدة أن تكافح للحفاظ على نمو الاقتصاد وتحسينه عن طريق دمج القوى الاقتصادية المتنامية، وتعزيز قواعد التبادل الحر، وتحفيز النمو لتحسين ظروف الحياة، والبرهنة للدول على أن النظام الاقتصادي الذي تقوده الولايات المتحدة هو النوع الذي يطمح الجميع نحو المشاركة فيه".
كما أن قوة الاقتصاد هو ما يدعم قوة أميركا دوليا، مما يجعل الخيارات الاقتصادية للإدارة القادمة من بين خياراتها الأكثر مصيرية.
يضيف شاتز أن "النمو في معظم الاقتصادات الكبرى إما تباطأ أو أُبطئ، وجولة مفاوضات التجارة متعددة الأطراف قد فشلت، والدين العالمي يتزايد، خاصة بالأسواق الناشئة، واقتصاديات البلدان النامية تشهد تباطؤا نابعا في جزء منه لتباطؤ الاقتصاد الصيني".
وفيما وراء شواطئها تواجه الولايات المتحدة ثلاثة تحديات مؤثرة؛ وهي المؤسسات الاقتصادية الدولية، القوة الاقتصادية المتنامية للصين صاحبة أفضل فرص النمو، إضافة إلى الحاجة لتعزيز الاقتصادات الضعيفة من حلفائها التقليديين، خاصة اليابان وأوروبا من أصحاب النمو الأضعف.
تقترح الدراسة على صناع السياسة الأميركية أن يولوا اهتماما خاصا للحفاظ على النظام الاقتصادي الدولي القائم على القواعد التي ساعدت على خلق الفرص والحد من الفقر بمعايير تاريخية، فمن الصعب أن نتصور نظاما بديلا يمكن أن يحرز نفس المكاسب، والعمل على تحسين هذا النظام.
وتوصي لجنة الدراسة بأن توافق الولايات المتحدة على بعض نصوص اتفاق التجارة للمحيط الهادئ، سواء صدّق الكونغرس على اتفاقية الشراكة عبر الهادئ الحالية أم لا.
كما ينبغي على واشنطن استكمال اتفاق التجارة الأميركية الأوروبية للمساعدة في حفز نمو الاقتصادات الحليفة الأضعف، والنظر في كيفية تمكين منظمة التجارة العالمية من أن تستفيد من هذه الصفقات أساساً لجولة جديدة من محادثات التجارة العالمية.
وحسب التقرير الأميركي فإن الولايات المتحدة سوف تستفيد من خلال العمل مع الصين ومن الأفضل إدماجها في النظام القائم، وكذلك دعم النمو الاقتصادي للشركاء والحلفاء واستخدام الأدوات الاقتصادية لردع السلوك غير المرغوب فيه،
وأشارت الدراسة أيضاً إلى أن فرص التجارة والاستثمار بين الولايات المتحدة والصين ازدادت بسرعة كبيرة، والشركات الأميركية تخدم السوق الصيني في المقام الأول عبر فروع شركائهم الأجانب في الصين، وأميركا سوف تستفيد أكثر إذا كان صعود الصين يمكن استيعابه داخل النظام العالمي الحالي.
فليس فقط أن الاقتصادين (الأميركي والصيني) متشابكان؛ ولكن العديد من حلفاء الولايات المتحدة لديهم علاقات تجارية واستثمارية كبيرة مع الصين. وينبغي على الولايات المتحدة أن تطور وسيلة للتعامل مع مؤسسات التنمية التي تقودها الصين الجديدة، وبخاصة بنك الاستثمار في البنية التحتية الآسيوية وبنك التنمية الجديد.
والمرجح أن تبقى الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم لسنوات عديدة قادمة، ويمكن أن تستفيد من تعزيز دورها القيادي في الهياكل الاقتصادية الدولية التي ساعدت على خلقها.
والمقارنة بين الاقتصادين الكبيرين تساعد في التعرف على حقيقة الوضع فعليا؛ ففي عام 2015 كان الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 18 تريليون دولار، بينما الصين كان 11.4 تريليونا.
وكان نصيب الولايات المتحدة من الشراكة في الاقتصاد العالمي 22.3% عام 2014 بينما الصين 13.4%. ويصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة 54.360 دولارا، بينما الصين 7.626 دولارا عام 2014.
وتقدم الدراسة بعض التوصيات المهمة لصناع السياسة الأميركية للحفاظ على الصدارة ومواجهة التحديات في الفترة المقبلة؛ فمع الأهداف المزدوجة لتحرير التجارة والحفاظ على شرعية منظمة التجارة العالمية (WTO)، ينبغي على الولايات المتحدة أن تهدف إلى إعادة تشغيل جولة مفاوضات جديدة متعددة الأطراف وواسعة النطاق.
وإذا كان ذلك غير ممكن، فيجب إذن أن يكون الهدف هو الاتفاقات التي تم التفاوض عليها مع المجموعات الأصغر من البلاد التي توفر المنافع لجميع أعضاء منظمة التجارة العالمية.
كما يتعين العمل على إقناع الصين بالاستمرار في الاندماج بالنظام القائم على قواعد عالمية، مرتكزة على معايير عالية من الانفتاح والوفاء بالالتزامات؛ وذلك عبر آليتين تشملان تطوير الممر المؤدي إلى الانضمام إلى اتفاقية المحيط الهادئ واستكمال معاهدة الاستثمار الثنائية.
وحسب الدراسة، فإن المساعدات الخارجية يمكن أن تكون بمثابة أداة قيمة لتحسين الرفاه ودعم النمو وتوسيعها يجب أن يكون متماشيا مع تقييمات منتظمة لآثارها. إلى جانب العقوبات التي يمكن أن تستخدم أداة قيمة لتغيير السلوك غير المرغوب فيه.