لا شك في أننا نعاني من انعدام تجاوب المسؤولين مع الأبحاث ومخرجات الجهود العلمية المبذولة، ومن نقص في عدد الباحثين، فـالمنطقة العربية بدل أن تشهد استعادة للباحثين العرب الذين يتخرجون من الجامعات الغربية، يظلون في تلك الدول بدل العودة إلى بلادهم التي تشهد راهناً نزيفاً في عدد الباحثين وعديد المراكز، وتعجز عن تأمين مصادر التمويل التي تبدو نادرة رغم وفرة الأموال ما يهدد مؤسسات عريقة ذات أهمية قصوى (مؤسسة الدراسات الفلسطينية مثالاً). لكن المعاناة الأكبر تتمثل في سيادة مناخ الإرهاب بشقيه الرسمي والأهلي، وبالتالي فقدان الحريات وغياب سيادة القانون وحق التفكير في المستقبل من باب العلم وليس سواه.
بهذا المعنى تفقد المراكز البحثية العقول والظروف التي تتيح لها العمل، فقيمة الأبحاث والدراسات التي تنتجها أي من المؤسسات البحثية تكمن في استقلاليتها ومهنيتها ونسبية الحياد الذي تلتزمه ما يتطلب مناخاً داخل وخارج أماكن العمل، يبدو إن لم نقل إنه مفقود بالكامل، فعلى نحو نسبي. ولا تتحقّق هذه المهنيّة إلّا بهامش كبير من الحرية، يمنح لمراكز الأبحاث كي تتولى هي بنفسها وعبر حوار العاملين فيها تحديد أولويات عملها واختيار أجندتها البحثية وأنشطتها العلمية، بمعزل عن المؤثِّرات السلبية الخارجية والداخلية. كما أن الباحث كي يمارس عمله هو بحاجة إلى ممارسة استقلاليته وإلى حرية في نشاطه، من دون الخضوع لأوصياء على فكره وبحثه وإنتاجه. حيث معظم الأنظمة تمارس التسلط دون حد أدنى من الهوامش ومجتمع وجماعات أهلية تصم كل من لا يقول قولها بالزندقة والكفر والخروج عن صراطها المستقيم. ما يجعل حرية الرأي والتعبير وكشف العورات المستورة للواقع القاتل في المجتمعات العربية مجرد سراب.
في مناخ تتضاءل فيه مقادير الحرية جرّاء القيود السياسية والأمنية المفروضة على عمل المؤسسات البحثية، نتيجة الطبيعة المزدوجة للأنظمة السياسية العربية ذات التركيبة السلطوية وتوجهاتها، والمجتمع الأهلي بهيمنة الفكر الغيبي عليه تصبح عمليات البحث الموضوعي والاجتهادات الهادفة مجرد بضاعة مرذولة. ومعه، لا يتبقى في الميدان سوى المراكز والباحثين الذين يحظون بأغطية سياسية، لذلك تتم ملاحظة ارتفاع وتيرة الأدلجة والتسييس ما يقود إلى فقدان الموضوعية والشفافية والانغلاق على الآراء المتعددة والنقد الإيجابي البناء. نقول هذا مع التأكيد على حق الباحثين والمراكز في تكوين قناعات وتفضيلات وأولويات أيديولوجية وسياسية.
إن تحدي الحرية والاستقلالية على محوريته لا يختصر التحديات، إذ تبقى ضرورة توفير قواعد البيانات والمعلومات اللازمة لإجراء البحوث عائقاً آخر يحول دون تحقيق الموضوعية والعوائد المطلوبة. يضاف إلى ذلك طبيعة نمط التعليم التلقيني السلطوي السائد في معظم المدارس والجامعات وضعف التعاون والشراكات العلمية بين مراكز الدراسات الخاصة والحكومية والأكاديمية على المستوى العربي، وعدم توفر قنوات الاتصال والتنسيق مع المراكز العالمية؛ ونقل خبراتها ما يرسخ التعاون العلمي المعرفي مع مؤسسات باتت تملك باعاً متقدماً في مجالات عملها، ولا سيّما أنّ هناك خياراً علمياً واحداً لا ثاني له من أجل تهيئة المجتمع، لمواكبة التقدم السريع في مجال العلم والتكنولوجيا وثورة المعلومات.. يضاف إلى ذلك ضعف إن لم يكن انعدام التنسيق بين مراكز الأبحاث والقطاع الخاص والمراكز الأكاديمية في الجامعات.
*أستاذ جامعي