تجربتان ثوريتان

05 اغسطس 2016
+ الخط -
هناك تجربتان ثوريتان عرفهما تاريخ العرب الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، الجزائرية والفلسطينية. وهناك، منذ نيف وخمسة أعوام، ثالثة هي السورية، والتي سألقي بعض الأضواء عليها، بمقارنتها مع تلكما التجربتين.
اعتمدت ثورة الجزائر، التي أطلقتها وقادتها جبهة التحرير الوطني، عام 1954، المركزية الصارمة في تنظيماتها وآليات عملها وعلاقاتها بالمنضوين فيها، على الرغم من أنه سبقتها تجربةٌ حزبيةٌ ونقابية متنوعة ومهمة، أدى فشلها في نيل الاستقلال لبلادها إلى تبني الكفاح المسلح سبيلاً للتحرير، ولاستعادة الدولة الوطنية السيدة والحرة والمستقلة، بعد مضي أكثر من قرن على اختفائها بعد سقوطها تحت الاستعمار الفرنسي الذي ما لبث أن اعتبر الجزائر جزءاً من فرنسا، يقع على شاطئ المتوسط الجنوبي، وعمل على دمجها دمجاً لا فكاك منه داخل جسدية الدولة الفرنسية السياسية والإدارية التي رفضت دوماً مطالبة السكان بالاستقلال، وقمعتهم كعصاة ومتمردّين على الشرعية، ضاربة عرض الحائط باختلاف هويتهم عن هويتها، وتاريخهم الذي عرف فترة من الاستقلال النسبي نيفاً وعشرة قرون، كان فيها جزءاً من الإمبراطورية العربية/ الإسلامية.
كانت المركزية حاجةً حتمتها حرب العصابات الشعبية، ورداً سياسياً وتنظيمياً على الانتماءات الدنيا، الحزبية والجهوية التي تفرّق صفوف الجزائريين، وبداية حقبةٍ من السياسة الوطنية، يجب أن تتحد فيها قدرات الشعب وطاقاته إلى أقصى درجة ممكنة، وأن تواجه المستعمر بكامل زخمها وقوتها، بما أنه ليس من الجائز، لتناقض الشعب العدائي معه، أن يعرف أي تهاون، كما لا يجوز السماح له بفتح أية ثغرة في جسد الثورة، انطلاقاً من خلافاتٍ قد تحدث فيها. من أجل الوحدة، وضعت الثورة قيادتها بين أيدي رجال زودتهم بذراعين تنفيذيين: عسكري وسياسي، اتبعتهما اتباعاً مطلقاً بها، ضم الثاني منهما رجالاً من الوسط السياسي، أشهرهم عبان رمضان وعباس فرحات ويوسف بن خده، من دون أن تتخلى عن حقها في القرار. وحين جرت المفاوضات مع الفرنسيين حول استقلال الجزائر، تولى قادتها أنفسهم عملية التفاوض .
قامت الثورة الفلسطينية على تنوع تنظيمي واسع، فقد ضمت طيفاً واسعاً من أحزاب وطنية
وقومية وإسلامية ويسارية وليبرالية المنشأ أو التوجه، بنت أوائل الستينيات أذرعاً عسكرية تابعة لها، ما لبثت أن انضوت، كجهات سياسية، في قيادة موحدة، مثلتها منظمة التحرير الفلسطينية التي تولى رئاستها ياسر عرفات، قائد حركة فتح: أكبر تنظيم فلسطيني مسلح، والجهة التي تمحور حولها العمل الوطني والعسكري، وقامت بدور حاسم في توحيد المقاتلين والسياسيين، من دون أن تحد من تنوعهم، أو تقيّد قدرة تنظيماتهم على العمل. في ظل هذه الخصوصية، عرف الفلسطينيون كيف يجعلون عملهم موحداً أو متكاملاً ميدانياً، وعلى الصعيد الاستراتيجي، وصعيد مواقفهم من قضايا الحرب والسلام. وقد تباهى عرفات، مراراً وتكراراً، بما كان يسميها "ديمقراطية البنادق" التي عرف دوماً كيف يوحّدها ضد العدو الإسرائيلي، وكيف يجعلها تتخطى خلافاتها، وتبقى متمسكةً بتناقضها الرئيسي مع الصهاينة، والذي تحوّل أيُّ تناقض داخلي فلسطيني، بالمقارنة معه، إلى مجرد خلاف.
لم تبلور الثورة السورية قيادة مركزية من الطراز الجزائري. ولم تعرف إلى يومنا قيادةً قادرةً على توحيد التنوع، وتوجيهه الواعي والبرنامجي، نحو هدف واحد، هو إسقاط النظام وانتصار الحرية والديمقراطية. وزاد الطين بلةً عجزها عن الحؤول دون اختراق الثورة من قوى مذهبية، معادية لها ولمشروعها، توطّنت بصورة رئيسية في المجال العسكري، حيث استمر فشل مؤسسات المعارضة في توحيده، وضمان غلبته على أي تكوين مسلح لا ينتمي إلى الجيش السوري الحر، كما تواصل فشلها في دفع فصائله إلى تبني خياراتٍ متقاربةٍ أو متشابهة حيال مختلف القضايا، خصوصاً منها العمل العسكري الذي لم تقدم المعارضة أية رؤيةٍ خططية لإصلاحه، فكانت النتيجة الكارثية بقاء حقل الثورة السياسي منفصلاً عن حقلها العسكري، المشتت والحافل بالتناقض بين أطرافه، فلا عجب أن سادت الفوضى الحقلين السياسي والعسكري، وظهر فيهما عديد من أمراء الحرب والانتهازيين، ولا غرابة في أن الثورة لم تنجح، بل شهدت تراجعاً حثيثاً، ومتى وأين نجحت ثورةٌ تحمل مشروعين متناقضين، يخدم أحدهما النظام؟
لم يفت الوقت بعد. على الثورة، كي تنتصر، الأخذ بطريقةٍ تشبه التجربة الفلسطينية، القائمة على تنوعٍ لا يمكننا تخطيه أو القفز عنه، واعتبار وجوده منعدماً، مع أن لقواه العسكرية من القوة، داخل وطننا وخارجه، ما مكّنها من تحييد دور ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية في المجال العسكري، وأن من المحال اختيار الطريق الجزائرية، لكونها تتطلب ما يفتقر "الائتلاف" إليه: قيادة مركزية لا يستطيع أحد الاعتراض عليها أو عصيان أوامرها، أو العمل بعيداً عنها أو ضدها، واندماجا سياسياً وعسكرياً مطلقاً.
لا بد، من الآن، من توحيد مواقف التنظيمات العسكرية والسياسية على برنامج، ومن وضع قيادة كارزمية على رأسها، لا شيء يمنع أن تكون من صفوف المقاتلين. ولا مهرب من تفاهم وطني على حدودٍ عليا ودنيا، لا يخرج أحدٌ عليها أو يرفضها، يترجمه المقاتلون ميدانياً عبر قبولهم الانصياع لقيادته السياسية. بغير ذلك، لن تنتج الفوضى التنظيمية والفصائلية القائمة غير النكسات، وفي النهاية الهزيمة. ولن تنتصر ثورةٌ فشلت قواها السياسية والعسكرية في احتواء الأصولية والإرهاب ومخاطرهما، بل إن قسماً منها كان جزءاً منهما. ولن تنتصر الثورة ببرنامجين متناقضين، قوض أحدهما فرص البرنامج الديمقراطي، ونال دعم قوى احتسبت على الثورة، مع أنها لا تؤمن بها، وقاتلت ضدها بطرقٍ ألحقت بها أضراراً فادحة.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.