خيمت الفوضى على أسعار الصرف في السودان مجدداً، لتعود السوق السوداء بقوة في الأيام الأخيرة بشكل جلي، ولم تعد تقتصر على أماكن بعينها مثلما كان في السابق بالعاصمة الخرطوم، وإنما انتشرت عبر الطرقات في أماكن عدة بالبلاد، وسط صعود للدولار الأميركي الذي يسجل قفزات جديدة.
ويقول مختصون في الشأن الاقتصادي إن "تجار الدولة العميقة" هم من يقفون وراء إشعال سوق الصرف، وينشطون في الأسواق ويتحكمون في مفاصل الدولة الاقتصادية تحت سمع وبصر المجلس العسكري"، فيما يؤكد متعاملون في سوق الصرف أن تجاراً كبارا يتحكمون في العرض والطلب بشكل يومي ويحددون الأسعار.
ويعاني السودان أوضاعا معيشية صعبة وتوالي ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة، مع فقدان الجنيه لقيمته دون إجراء إصلاحات حقيقية منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتي عجلت بإطاحة المجلس العسكري للبشير في إبريل/ نيسان الماضي.
ورغم الدعم الذي قدمته السعودية والإمارات للخرطوم، عقب إطاحة الجيش البشير، وسيطرة المجلس العسكري على أموال شخصيات تابعة للنظام السابق، إلا أن الأوضاع الاقتصادية ما تزال متراجعة.
ويؤكد أحد المتعاملين في سوق الصرف فضل عدم ذكر اسمه، أن تجارة الدولار أصبحت علناً، دون أن تتدخل فيها أي سلطة، كما أن التحكم في الأسعار أصبح بيد قلة من التجار في السوق يتحكمون فيها وفقا لما يعرضونه من كميات في الأسواق.
ويشير إلى أن سعر الدولار قفز في السوق السوداء إلى 67 جنيها للشراء من المواطنين و72 جنيها للبيع، متوقعا ارتفاع الأسعار بشكل أكبر مع اقتراب موسم الحج الذي تحدث فيه ندرة في سوق العملات الأجنبية. ويحدد البنك المركزي سعر الدولار رسميا بـ45 جنيها.
وكان المجلس العسكري، الذي تولى الحكم، قد تعهد بالعمل على حل أزمة السيولة النقدية وتوفير السلع الأساسية، لا سيما الوقود والخبز.
لكن محمد الزين الخبير الاقتصادي يقول لـ"العربي الجديد" إن تجارة العملات الأجنبية وجدت أرضاً خصبة لها، في ظل الأزمة السياسية الراهنة وعدم وجود حكومة في ظل الفراغ والصراع السياسي في البلاد.
ويرى الزين أن "من الطبيعي أن يتحكم كبار التجار في سوق النقد الأجنبي"، موضحا أنه "رغم رحيل النظام السابق، إلا أن نفس التجار السابقين ما زالوا يمارسون مهنتهم وهم جزء من المنظومة الحكومية السابقة، حيث استغلوا الاضطراب السياسي وعمدوا إلى تقنين تجارتهم، خاصة أنهم يعملون من وراء ستار ويتخذون بعض صغار التجار في الواجهة".
ويضيف: "للأسف ما زال تجار الدولة العميقة ينشطون في الأسواق، ويتحكمون في مفاصل الدولة الاقتصادية تحت سمع وبصر المجلس العسكري".
ويأتي انفلات سوق الصرف، رغم إعلان المجلس العسكري، اتخاذ العديد من الإجراءات منذ إبريل/نيسان الماضي، لتشديد القبضة على المال العام والسيطرة على كل إيرادات الدولة.
ويقول محمد الناير، الخبير الاقتصادي لـ"العربي الجديد" إن التشوهات المتفاقمة في سوق العملات الأجنبية ستؤثر بشكل كبير على اقتصاد الدولة، وتضعف من تأثير الحلول المستقبلية للمشكلات.
ويشير الناير إلى أن التدهور الكبير لقيمة الجنيه يرجع إلى عدم التوصل إلى حلول سياسية، مضيفا: "رغم حصول المجلس العسكري لمنح من دول عربية، والتزام هذه الدول بدعم السودان بالنفط والغاز، إلا أن ذلك لم ينعكس إيجابا على المواطن الذى ما يزال يعاني من شظف العيش".
وتجددت أزمات الخبز والوقود والسيولة المالية، لتعود الصفوف الطويلة أمام المخابز ومحطات البنزين والصرافات الآلية في مشهد متكرر منذ أكثر من عام ونصف.
ويؤكد الناير أن هناك تهاونا كبيرا في معالجة بعض ضروريات المعيشة، خاصة وأن المواطن الذى بذل جهده في سبيل إصلاح الوضع الاقتصادي لم يجن شيئا، ودخلت البلاد في نفق أزمة جديدة، ما أدى الى ارتفاع جديد في أسعار السلع والخدمات.
ويقول مسؤول في البنك المركزي إن تراجع موارد الدولة من النقد الأجنبي هو ما يزيد من الضغوط المتواصلة على سعر الجنيه، مشيرا إلى أنه لا سبيل لتحقيق التوازن في سوق الصرف إلا بعودة الاستقرار الاقتصادي.
وتسبب الارتفاع الكبير في سعر صرف الدولار منذ مطلع العام الماضي في صعود أسعار مختلف السلع في الدولة التي تعاني من شح كبير في مواردها من النقد الأجنبي.
ويتوقع متعاملون في سوق الصرف أن يشهد الجنيه مزيداً من التراجع خلال الفترة المقبلة، في ظل استمرار الصعوبات الاقتصادي واستمرار الأزمة السياسية. ويقول تاجر في سوق صرافة بالخرطوم "نتوقع أن يصل سعر الدولار إلى 80 جنيها خلال أسبوعين في ظل الطلب الكبير عليه".
ويضيف أن الطلب على الدولار يتزايد يومياً من قبل الشركات المستوردة وطلاب الجامعات بالخارج والمرضى، ما أدى إلى رفع سعره في السوق الموازية في ظل عدم تجاوب البنك المركزي وتلبية طلبات النقد الأجنبي.
وأقر نظام البشير نهاية 2018، قانونا جديداً للتعامل بالنقد الأجنبي، شمل عقوبات رادعة تصل إلى السجن 15 عاماً أو الغرامة، إلا أنه لم يحد من عمليات الاتجار في الدولار وارتفاع اسعاره نتيجة لوجود عجز في احتياطي البلاد من النقد الأجنبي.
ويعاني السودان من خلل وعجز في الميزان التجاري، حيث واردات الدولة أكثر من صادراتها، ما يشكل ضغطاً متواصلاً على سعر صرف الجنيه ويؤدي لانخفاض مستمر لقيمته أمام الدولار. كما تعاني الدولة من ديون خارجية كبيرة، ما يزيد من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها.
وشهد معدل التضخم في السنوات الماضية ارتفاعاً مستمراً، وساهم ارتفاع مستوى الأسعار في انخفاض قيمة النقود، ونتج عن ذلك تراجع لرأس المال والاستثمارات المرتبطة بالقطاع الخاص، بسبب الخوف من اختلال التوازن الاقتصادي في الدولة، وفق البيانات الرسمية.
ويواجه السودان أزمة مالية خانقة، في ظل إحجام المؤسسات الدولية عن إقراضه، بسبب تخلّفه عن سداد ديونه المتأخرة. وكان جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، قد قال في تصريحات صحافية في مايو/أيار الماضي، إنه ليس بإمكان صندوق النقد تزويد السودان بالتمويل، بسبب المتأخرات المستحقة عليه.
وأظهرت بيانات رسمية، أن إجمالي الدين الخارجي للسودان يبلغ نحو 58 مليار دولار، النسبة الأكبر منه فوائد وغرامات تأخير. وأوضحت البيانات الواردة في تقرير مشترك بين البنك الدولي ووزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، صادرة الشهر الماضي، أن أصل الدين الخارجي يراوح بين 17 و18 مليار دولار، والمتبقي من إجمالي الدين بنسبة 85 في المائة عبارة عن فوائد وجزاءات، بدأت في التراكم منذ عام 1958.
ووفقا للتقرير، فإن قائمة دائني السودان تضم مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة 15 في المائة ونادي باريس 37 بالمائة، و36 في المائة لأطراف أخرى، بجانب 14 بالمائة للقطاع الخاص.