تجارة الدواء منتهي الصلاحية في مصر..العلاج به سم قاتل

25 يوليو 2016
جانب من أدوية منتهية الصلاحية تم ضبطها (العربي الجديد)
+ الخط -

لم يتوقع الشاب المصري حسن السيد، أن تنهار كليته بينما هو في العشرين من عمره، ليقضي بقية حياته في حاجة إلى أدوية مذيبة للحصوات، متعايشا مع خطر الإصابة بالفشل الكلوي، والسبب كما يؤكده طبيبه المعالج، يرجع إلى تناوله دواء "رابيفلام" منتهي الصلاحية ومعاد تدويره، اشتراه من صيدلية قريبة من بيته في مدينة الصف بمحافظة الجيزة، جنوب مصر، بعد آلام شديدة في ركبته.

وفقا للدكتور محمد عز العرب، المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، والذي وثّق حالة حسن، فإن المادة الفعالة في دواء الرابيفلام هي ديكلوفيناك البوتاسيوم والتي تتأيض (تمتص) عن طريق الكبد، ثم يتم إخراج 60% من الدواء عن طريق البول، غير أن الرابيفلام بعد انتهاء صلاحيته تتحول مادته الفعالة إلى سموم تترسب في الكلى، ما يؤدي إلى التهاب الكلى وتكوين الحصوات انتهاء بالفشل الكلوي، وهو ما حدث لحسن، وفقا لما يوضحه الدكتور عز العرب.

حالة حسن تعد واحدة من بين الآف حالات المصريين الذي وقعوا ضحايا لتجارة الدواء منتهي الصلاحية، والتي تبلغ طبقاً لتقديرات المركز المصري للحق في الدواء، نحو 600 مليون جنيه مصري، وهو ما يتفق مع تقدير نقيب الصيادلة الدكتور محيي عبيد، وغرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات والتي تؤكد أن كميات الأدوية منتهية الصلاحية بالأسواق قيمتها 600 مليون جنيه (68 مليون دولار أميركي وفقا للسعر البنكي الرسمي).


التواصل مع باعة "الاكسبير"

عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، كانت بداية البحث عن تجار الأدوية منتهية الصلاحية، ولم يكن مطلوبا أكثر من كتابة كلمة "اكسبير" في خانة البحث، لتظهر قائمة طويلة من النتائج موزعة بين صفحات ومجموعات وأفراد.

اختلقت معدة التحقيق حسابا وهميا، يحمل اسم صيدلانية، وعبر هذا الحساب تمكنت من التواصل مع عدد من تجار الأدوية منتهية الصلاحية، إذ ادعت أنها صيدلانية تملك مخزن أدوية تحاول تصفيته قبل سفرها إلى الخارج، أرسلت معدة التحقيق قائمة بأسماء وكميات 11 صنفا دوائيا، إلى 4 تجار حملت حساباتهم الأسماء التالية "وداعاً لمشاكل الاكسبير" و"أدوية اكسبير جملة" و"تاجر اكسبير" و"الصفوة لتبديل الاكسبير والتالف"، وتحدثت معهم عبر الحساب المختلق على أنها استطاعت توزيع باقي الكمية الموجودة بالمخزن.

أبدى صاحب الحساب الأول "وداعاً لمشاكل الاكسبير" استعداده لشراء كافة الأصناف الدوائية منتهية الصلاحية المتوافرة في المخزن، وحدد نسبة 30% من سعر الدواء الأصلي، موجها اللوم إلى صاحبة حساب الصدلانية المختلق من قبل معدة التحقيق، لأنها لم تتصل به منذ بداية عملها على تصفية المخزن، مشيراً إلى أنه كان يستطيع شراء الكمية بالكامل واختصار الوقت، وحين سألته المعدة عن اسمه قال د. محمد، أما التاجر الذي يحمل حسابه اسم "أدوية اكسبير جملة"، فبعد أن أبدى استعداده للتعاون وتصريف الكميات المتوافرة من الدواء منتهي الصلاحية، قال لمعدة التحقيق إنه "متوقف عن شراء الجملة لفترة"، فيما اختفى التاجر الثالث الذي حمل حسابه اسم "تاجر اكسبير" ولم يرد على الرسائل الصادرة عن الحساب المختلق بعد أن قامت معدة التحقيق بإرسال قائمة الأصناف عقب إبدائه استعدادا للشراء في وقت سابق، فيما تجاهل الرابع الرسالة.

صور محادثات مع باعة الأدوية منتهية الصلاحية في مصر (العربي الجديد)



مخازن إعادة التدوير

في قرية "باسوس"، بضواحي القاهرة، وتحديداً في منطقة "سيدي سيف" الزراعية، يقع مخزن أدوية العدلية، المسمى على اسم عائلة العدلية التي تملك المخزن، الذي لا يمكن تمييز مكانه بسهولة، إذ تمتلئ المنطقة بمصانع غير مرخصة للصناعات الدوائية (يطلق عليها مصانع بير السلم)، استطاعت معدة التحقيق الوصول إلى المخزن عن طريق صيدلي متطوع، متخفية في صورة صيدلانية ريفية تبحث عن أدوية زهيدة الثمن لصيدليتها.


خلال الحديث، كشف "عم عوف"، مالك المخزن، كما يناديه عمال المصنع الصغير، عن سر اختياره لمنطقة باسوس للعمل فيها، إذ إن المخزن ملك متوارث لعائلته، كما أنه بعيد عن منطقة المرج الشهيرة بمصانع الأدوية غير المرخصة والتي تعد منافسا تقليديا لتلك المخازن التي تقوم على جمع الأدوية منتهية الصلاحية وإعادة تدويرها وبيعها بأسعار منخفضة.

يضم المخزن 3 غرف كبيرة، الأولى وهي المدخل ويقع في وسطها باب يؤدي إلى غرفتين، إحداهما ذات مساحة شاسعة وتضم الأدوية التي سيعاد تعبئتها بالإضافة إلى ماكينة تغليف، أما الثانية فهي أصغر في المساحة وتضم الأدوية الجاهزة للبيع، وأتيح لمعدة التحقيق دخولها لاختيار الأصناف التي تباع بنسبة حسم تبلغ 50% عن سعرها الأصلي، قبل أن تنصرف بحجة فقدانها لقائمة الأصناف مع وعد بإرسالها عبر تطبيق "الواتس آب".

التدوير هو الأخطر

يحدد محمود فؤاد، رئيس المركز المصري للحق في الدواء، طرق التعامل مع الأدوية منتهية الصلاحية في 3 وسائل، الأولى أفضلها لصحة المريض وتتمثل في بيعها مع قرب انتهاء صلاحيتها إلى سلاسل الصيدليات، التي تتميز بنسبة سحب عالية تضمن بيع الدواء قبل انتهاء صلاحيته أو إعادته مرة أخرى للشركات نظراً للعلاقة المميزة بين سلاسل الصيدليات والشركات.

ويضيف فؤاد أما الطريقة الثانية فهي بيع هذه الأدوية للصيدليات في المناطق النائية والريفية بحيث لا يخسر الصيدلي، ويتم بيع هذه الأدوية بطريقة التجزئة، لأن تاريخ الصلاحية يكتب بخط صغير جدا علي الوحدة كشريط الأقراص والأمبولات، والبعض لا يهتم بقراءة هذا التاريخ، وبالطبع هذه الطريقة تمثل خطورة واضحة على حياة المريض، أما الطريقة الأشد خطورة فهي بيع هذه الأدوية لمصانع إعادة التعبئة والتدوير غير المرخص.


مخاطر تصل للسرطان


يحدد الدكتور محمد عزب العرب، المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، مخاطر تناول دواء بعد انتهاء صلاحيته في مضاعفات المرض الذي تتم معالجته بسبب انعدام المادة الفعالة وانتهاءً بالسرطانات والفشل الكلوي، وخاصة أن الأدوية في الأغلب يتم التخلص من نواتج تفاعلاتها الدوائية عن طريق الكلى.

وتابع عز العرب، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، أن بعض العاملين في شركات الدواء أو الصيدليات يروجون من وقت لآخر أن الأدوية منتهية الصلاحية لا تؤذي، إلا أن هذا الحديث هو محض هراء، لأن الأدوية منتهية الصلاحية تحدث بها تفاعلات كيميائية وعضوية من الممكن أن تحولها إلى سموم قاتلة في الحال، أو سموم تقتل ببطء مع كل جرعة دوائية.

ويتفق الدكتور أحمد فاروق، رئيس لجنة الصيدليات بنقابة الصيادلة، مع عز العرب، مؤكدا أنه تقدم ببلاغ للنائب العام بعد تعرض 25 طفلا لتسمم كاد أن يودي بحياتهم في أسوان بسبب أدوية منتهية الصلاحية، متهماً النائب العام بالتقاعس عن التحقيق في هذا البلاغ الذي قدمه قبل عامين.



السجن المشدد

بحسب الكتاب الدوري رقم 13 لسنة 2009، الذى أصدره النائب العام، فإن غش الدواء يعد من أخطر الجرائم التي تعرض صحة الناس وأرواحهم للخطر، وينعكس أثره سلباً بصورة مباشرة على قدرة الشعب على العمل والبناء، ويقوّض الجهود التي تبذلها الدولة في سبيل كفالة أداء الخدمات الصحية، وينال من سمعة الجودة والفعالية التي يتمتع بها الدواء المصري في السوق العالمية، ما يلقي بظلال سيئة على التصدير والاقتصاد القومي. وتضمن الكتاب الدوري المشار إليه تعليمات واجبة الاتباع إلى أعضاء النيابة تتعلق بإجراءات التحقيق في جرائم غش الدواء تحقيقاً قضائياً، وإسباغ القيود والأوصاف المنطبقة عليها، وتحديد جلسات قريبة لنظرها، ومراجعة الأحكام التي تصدر فيها واتخاذ إجراء الطعن المناسب على ما يصدر منها بالمخالفة لأحكام القانون.

وطبقاً لتعديلات قانون رقم 48 لسنة 1941 الصادرة عام 1994، فقد تم تشديد العقوبات فى جرائم الغش المعاقب عليها فى القانون، إذ جعل المشرع عقوبة الحبس وجوبية، وزاد عقوبة الغرامة في حديها الأدنى والأقصى، وذلك في جريمة غش الدواء، أو جريمة بيع الدواء المغشوش، أو غش المواد والعبوات والأغلفة التي تستعمل في ذلك وحتى التحريض على غش العبوات أو الأغلفة، وجعل الحد الأدنى لعقوبة الحبس في الجرائم سالفة البيان لا تقل عن سنة.

كما نص على تشديد العقوبة في حالة توافر ظروف مشددة، فصارت السجن المشدد أو السجن المؤبد إلى جانب الغرامة مع زيادة حديها الأدنى والأقصى. وتتمثل هذه الظروف، بكون الدواء المغشوش ضاراً بالصحة، أو حصول عاهة مستديمة، أو وفاة شخص أو أكثر. كما ينص القانون على تجريم الغش إذا وقع بطريق الإهمال أو عدم الاحتياط أو التحرز أو الإخلال بواجب الرقابة، وإذا كانت حيازة العقاقير أو النباتات أو الأدوية مما يستخدم في علاج الإنسان أو الحيوان تكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تتجاوز عشرين ألف جنيه أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة أيهما أكبر.


معركة غسيل السوق

على مدى ثلاث سنوات خاضت نقابة الصيادلة معركة ضخمة مع غرفة صناعة الدواء والتي يرأسها رئيس شركة مالتي فارما، الدكتور محمد العزبي، مالك سلسلة صيدليات "العزبي"، من أجل تنشيط اتفاقية "wash out" والتي تتيح للصيدلي إعادة الأدوية منتهية الصلاحية دون ربطها بحد أقصى من مبيعات الصيدلية، مع ضمان وجود كافة البيانات الخاصة بالصيدلية على العبوة عن طريق ختم يضم اسم الصيدلية والمركز والمحافظة والصيدلي ومخزن التوزيع لمنع التلاعب.

الاتفاقية السابقة وصفها نقيب الصيادلة الحالي، الدكتور محيي عبيد، بأنها إحدى أهم بنود برنامجه الانتخابي، إلا أن الاتفاقية وقفت محلك سر، كما يقول نقيب الصيادلة، بسبب تعنت غرفة صناعة الدواء. وأوضح عبيد أن هناك شركتين فقط من الشركات العاملة بالسوق التزمت بالاتفاقية وقامت بسحب الأدوية منتهية الصلاحية، فيما تقاعست باقي الشركات لعدم وجود قانون أو قرار ملزم للشركات، متهماً وزارة الصحة بالتقاعس في الضغط على شركات الأدوية لتنفيذ الاتفاقية.

وطالب عبيد بإصدار قرار وزاري ملزم تتبعه عقوبات في حالة عدم التزام شركات الأدوية بسحب المرتجع من الأدوية، مشيراً إلى أن غياب مثل هذا القرار يهدد صحة المواطن المصري، قائلاً "شركات منتجات الألبان ملزمة باستلام مرتجعاتها من المحلات، فكيف الحال بالنسبة للأدوية؟". وتابع عبيد "الأدوية منتهية الصلاحية تقدر بنحو 600 مليون جنيه لم يتم سحب سوى ما يقدر بـ20 مليون جنيه بشكل فعلي".



الرقابة غائبة

من جانبه، قال الدكتور خالد مجاهد، المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة المصرية، إن الوزارة تحاول قدر إمكانياتها ملاحقة تجار الأدوية منتهية الصلاحية، إلا أن العائق يكمن في قلة عدد المفتشين، وتابع موضحا "حسابياً كل 63 صيدلية يقابلها مفتش واحد، وهو رقم مهول وضغط كبير على المفتشين".

وأضاف مجاهد "مصر بها نحو 63 ألف صيدلية و120 مصنعا محليا، ونحو 3 آلاف مخزن مرخص، وهي الأرقام الرسمية فقط، في الوقت الذي تضم إدارة التفتيش الصيدلي نحو 1500 مفتش فقط". وأشار مجاهد إلى أن الوزارة تحاول تتبّع صفحات الفيسبوك المتاجرة بالأدوية المنتهية الصلاحية والمهربة، وتم إغلاق بعضها بالفعل ولكن دون جدوى، لأن الصفحة التي تغلق اليوم تفتتح عشرات غيرها في اليوم التالي.

الأزمة في التوزيع

يرفض الدكتور أسامة رستم، نائب رئيس غرفة صناعة الدواء، اتهامات نقابة الصيادلة، بالتقاعس عن تطبيق اتفاقية "wash out"، مشيراً إلى أن الغرفة هي من بادرت لإقرار هذه الاتفاقية، مضيفاً أن هذا السلوك ليس جديدا على النقابة التي اعتادت اتهام الغرفة باتهامات ليس لها أساس من الصحة لأسباب غير معلومة، على حد قوله.

وأضاف رستم أن الدواء منتهي الصلاحية ما زال في الأسواق حتى الآن بسبب تنفيذ شركات ومخازن التوزيع للاتفاقية، كل حسب رؤيته، مشدداً على أن الغرفة ستقوم بالتواصل مع الموزعين لضمان وضع آلية واحدة تضمن استرجاع الأدوية منتهية الصلاحية وغسيل السوق منها. ونصح رستم نقابة الصيادلة بالتواصل مع الغرفة بدلاً من اتهامها لأن المواطن المصري لن يستفيد من الاتهامات، على حد قوله.