تبعات الكساد الاقتصادي في أوروبا والشرق الأوسط

06 يناير 2015

بوتين لدى وصوله إلى موقع مناورات للجيش الروسي (مارس/2014)

+ الخط -
شهد العام الماضي 2014 حدثين كبيرين، لم يكونا في الحسبان، فقد أحدث قرار ضمّ شبه جزيرة القرم تموضعًا جيوسياسيًا جديدًا، فاجأ الاتحاد الأوروبي الذي لم يكن على استعداد لمواجهة هذه التغييرات الأصولية في الخريطة الدولية، وكذا الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا، والاقتتال والمواجهات الدموية في سورية والعراق، وصعود نجم الدولة الإسلامية وارتفاع أعداد المقاتلين القادمين من الدول الأوروبية، للانضمام في صفوف الجيوش والتنظيمات الإسلامية، ما أدّى إلى ردود فعل سلبية على الاقتصاد الأوروبي وتراجع النمو الاقتصادي في معظم الدول، إلى أقل من 1% من معدّلات الدخل القومي في المتوسط الأوروبي العام. 
وقد ساهمت المشكلات التي واجهت الاتحاد الأوروبي في ظهور بدائل على المستوى السياسي، ليدرك الاتحاد أثر التطوّرات العملية والأصولية على حدوده، وفي نقاط الاتصال مع المشرق المتفجّر، في محاولة لإعادة جدولة أجندته السياسية وأولوياته، في ضوء الربيع العربي الذي، وعلى ما يبدو، قد أجهض في رحم النقلة المرجوّة تجاه عالم ديمقراطي، يضمن الحريّات العامة، واستبدال السلطات الاستبدادية بصناديق الاقتراع. كما أدّى الحصار المفروض على روسيا إلى مزيد من الكساد، وخصوصاً في المساق التجاري، وأمن توريد مصادر الطاقة والغاز الطبيعي. وأدّت التغييرات إلى انخفاض ملحوظ في القدرة الشرائية في دول أوروبية عديدة، وعدم القدرة على مكافحة البطالة، كما هو مقرّر ضمن برامج اللجنة الأوروبية، وخصوصاً بين فئات الشباب، الأمر الذي تطلب ضخّ المليارات، والتأسيس لمشاريع واعدة، قادرة على إيجاد فرص عمل بين الفئات الشبابية في الفترة حتى 2020.
من المعروف أنّ الأيديولوجية الأوروبية تتناول شؤون الشرق الأوسط، من منطلق مصالحها الخاصّة، بعيدًا عن المشاعر والعواطف والنظرة الديمقراطية التي يصعب أن تتنازل عنها في أسلوب حياتها الاجتماعية والسياسية، على حدّ سواء، وإذا كانت هذه المصالح ترى دعم الأنظمة الاستبدادية في منطقة الشرق الأوسط، فستعمد الدول الأوروبية لدعمها، بذريعة الدفاع عن القيم والأقليات المسيحية في المنطقة تارة، ولأسباب تتعلّق بتداعيات عمليات التغيير المؤلمة والضرورية أحيانًا.

تتمثل الأولويات التي أعلنها الاتحاد الأوروبي للعام الجديد 2015 في تبنّي سياسة عمليّة للتخفيف من المواجهات العنفوية العسكرية في الدول المجاورة، ورفع معدّلات النمو الاقتصادي. وفقًا لتصريحات غونترام فولف، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في بروكسل والعضو السابق في المجلس الاستشاري التابع لرئيس الوزراء الفرنسي، وقد أشار فيها إلى إنّ أولويات الاتحاد الأوروبي، خلال عام 2015، تتمثّل في تجاوز السلبيات المترتبة للصراع مع روسيا، وتمكّن الاتحاد الأوروبي من تنويع موارد الطاقة، عدا روسيا، ومراجعة أمن الطاقة لدول الاتحاد الأعضاء. كما تبذل اللجنة الأوروبية جهودًا كبيرة لتأسيس اتحاد طاقة أوروبي، يشمل رقابة العقوبات المقرّرة ضدّ روسيا، وضمان الفائدة المرجوّة من هذا الإجراء، إذا أصرّ الاتحاد الإبقاء على الحصار فترات زمنية أطول.
تعزيز الثقة المتبادلة بين دول الاتحاد 
خسرت دول الاتحاد الأوروبي الكثير من مواقعها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، لعدم فهمها العميق الأحداث التي تمرّ بها المنطقة، وبسبب حالة عدم الاستقرار واستمرار عمليات القتل والترويع وانقطاع الخدمات اللوجستية من وإلى المنطقة. لذا، لجأت المنظومة إلى توسيع آفاق التعاون بين دولها الأعضاء. وهنا، يأتي أثر الضرورة الملحّة للاستثمار وعدم الاكتفاء بالإيداعات المالية للاستفادة من الفوائد البنكية، وقد شهدت دول الاتحاد تراجعًا ملحوظًا في شأن الاستثمار في السنوات السبع الأخيرة، لانعدام الثقة في قطاع العمل وتعقيدات القوانين الإدارية. وهناك ضرورة ملحّة لتوجيه اهتمام رجال السياسة، وتوثيق الثقة مع قطاع العمل الخاص، وطرح سياسة شفافة ومفهومة لهذا القطاع، ورفع معدّلات الثقة المتبادلة بين دول المنظومة.
من الواضح أن المنظومة الأوروبية تعاني من مشكلات بنيوية، وأخرى مرتبطة بانخفاض معدلات الإنتاج، وتباين في موازين الصرف والتنافس، ما يتطلب تغييرات جذرية في بنية الاتحاد، وتقليص التفاوت في معدلات النمو بين الدول الأعضاء. وتتطلب عمليات الإصلاح المطلوبة تأهيلاً جيّداً للكوادر، وتقديم الدعم بشأن مكافحة البطالة في مساقات عديدة؛ وإجراء تغييرات على المستوى الوطني، وإصلاحات قادرة على اجتذاب مزيد من الاستثمارات، ورفع معدلات الإنتاج والتوصل إلى أسواق جديدة. ويذكر أنّ البنك المركزي الأوروبي تفاعل ببطء شديد مع حالة التضخم المالي، في الأعوام القليلة الماضية، وعليه تفعيل نشاطه لمساعدة قطاع العمل خلال العام 2015. وهناك حاجة كذلك لمزيد من المبادرات السياسية، وإيجاد آليات رقابة جديدة، لحلّ المشكلات التي تعاني منها البنوك الأوروبية، بما يسمح بتسهيل سياسة الإقراض والتسليف بفوائد منطقية ومقبولة، تساهم في تحسين أداء الأسواق المالية.
الكساد في الشرق الأوسط والثروات الطبيعية
عدا عن الأزمات واستمرار الأحداث الدموية في منطقة الشرق الأوسط، أدّى تراجع أسعار النفط الخام أخيراً إلى خفض معدّلات الاستثمار في قطاع النفط ومنتجاته، وكذا في قطاع العمل المتّصل، كالنقل والتخزين والتكرير والتنقيب، على المستويين، الإقليمي والعالمي، في الوقت الراهن. كما تسعى دول واتحادات كثيرة إلى الحصول على مصادر بديلة للنفط، فدول حوض البحر الأسود تؤكّد وجود كميات كبيرة من الذهب الأسود في قاع البحر الأسود، وهي بصدد التنقيب عنه واستثماره في السنوات القليلة المقبلة.
تؤكد مؤشرات الاستثمار والعمل تراجع معدّلات الدخل القومي، وتعرّض الدول التي تعتمد على تصدير النفط والمواد الخام لعجز مالي كبير، كما في دول منظمة الأوبك وروسيا التي شهدت حالة غير مسبوقة من التضخم المالي، وتراجع اقتصادها نتيجة للحصار الاقتصادي المفروض من الغرب والولايات المتحدة في التعاملات التجارية معها، مع أنّ الضرر لا يطال فقط الدول المنتجة، فمن المتوقّع أن تعاني الدول المستهلكة من نقص في الإمدادات على المدى البعيد، لتزايد الطلب على النفط، لسدّ احتياجات الإنتاج. وتعتمد الدول المنتجة والمصنّعة للنفط على هذه الواردات، بشكل أساسيّ، للاستثمار في تحسين البنية التحتية وتطويرها. لذا، سيطال الكساد قطاع المنشآت النفطية كافة، وسيؤدّي إلى تراجع أسهم الشركات والعقود النفطية طويلة الأمد ومجتمعات الطاقة بشكل عام. وسيحول استمرار انخفاض أسعار النفط دون استقرار قطاع العمل، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لعدم وجود بدائل إنتاج أساسية في دول هذا الإقليم. وعلى الدول المنتجة للنفط أن تدرك أنّ العالم مقبل على حالة من الكساد، قد تطول وفقًا للقلاقل والأزمات التي تتّسع رقعتها في قارات وأقاليم عديدة.   
الاتحاد الأوراسي وجهود روسيا لتجاوز العقوبات
سارعت روسيا باعتبارها الممثل الدائم للاتحاد الاقتصادي الجديد أوراسيا (EAEC)، إلى دعوة الاتحاد الأوروبي لإجراء محادثات عاجلة، بعد تراجع الاقتصاد الروسي، نتيجة للعقوبات وتراجع قيمة صرف الروبل الروسي، وصرّح فلاديمير تشيجوف، الممثل الروسي الدائم لدى الاتحاد الأوروبي، "إنّ العقوبات الروسية المفروضة بسبب دورها في الأزمة الأوكرانية لا تقف حجر عثرة أمام هذه المحادثات وإمكانيات التعاون المستقبلية". وفي هذا السياق، أيضًا، رحّبت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بالدعوة. وهناك بالطبع ضرورة ملحّة لكلا الطرفين، للخروج من حالة المواجهة الاقتصادية، لأنّهما، في نهاية المطاف، خسرا الكثير في الفترة التي تبعت فرض العقوبات، فقد تراجعت الصادرات الروسية من الغاز والنفط وحتّى القمح، وفشلت دول الاتحاد الأوروبي في تسويق منتجاتها الهائلة في الأسواق الروسية الواعدة، وغيرها من التبعات ذات العلاقة.

ويرغب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالحصول على إمكانية لتأسيس أطر فضاء اقتصادي في إقليم أوراسيا، بل والتفكير بإيجاد منطقة تبادل تجاري حرّ، يشمل كل الدول المعنية في اتحاد أوراسيا الاقتصادي. ويأتي هذا التركيز على الاتحاد الجديد، بعد انضمام روسيا البيضاء وأرمينيا، جنبًا إلى جنب، مع كلّ من أذربيجان وجورجيا ومولدوفيا وأوكرانيا. ويمكن لروسيا أن تتمكن من الالتفاف على الحصار المفروض على اقتصادها، من خلال هذا الاتحاد، مع الاحتفاظ بكل الأولويات الاستراتيجية التي حصلت عليها، إثر ضمّ القرم، وفي مقدمتها التفوّق العسكري والإبقاء على حالة التأهب تجاه تنامي كيان حلف شمال الأطلسي "الناتو".
وقد أشار السفير الروسي في الاتحاد الأوروبي تشيجوف كذلك إلى أهميّة التعاون مع هذا الاتحاد، بشكل يفوق أهميّة التعاون بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، لكن البيانات تشير إلى تفعيل المحادثات بين أوروبا وأميركا، لتأسيس منطقة تجارية حرّة قادرة على استيعاب استثمارات وتبادل تجاري بمليارات الدولارات. وشدد تشيجوف على أنّ روسيا حليف وجار طبيعي لأوروبا، ولا يحتاج التعاون معها لبذل جهد كثير لتخطّي المحيطات، كما أثبت التاريخ عدم استقرار الدولار عملة صعبة في مراحل عديدة.
وأوضح ستيفن بايفر، الخبير في مؤسسة الأبحاث "Brookings" أنّ الاتحاد الجديد جاء ثمرة امتداد سلطة روسيا لدول الجوار، علمًا أنّ المؤسسة نفسها أكّدت الدور الفاعل وتأثير عامل الغاز الطبيعي في الحياة الاقتصادية الأوروبية، حتى عام 2030 في أفضل الحالات، على الرغم من الجهود المتواصلة لإيجاد بدائل عن هذه المادّة الحيوية. ويسعى الاتحاد الجديد كذلك إلى الضغط على كازاخستان وروسيا البيضاء، اللتين تبدوان مستفيدتين من الانضمام لهذا الاتحاد على الصعيد الاقتصادي، لكنّهما، في الوقت نفسه، تخشيان الانجراف في السياسة الروسية الخارجية المرفوضة من الدولتين. ويمتلك الاتحاد لجاناً شبيهة بتلك المعروفة لدى الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقّع أن يتم تأسيس محكمة خاصة للاتحاد الأوراسي في العاصمة مينسك، وكذلك لجنة رقابة مالية في أستانا وممثليات عن لجان هذا الاتحاد في عواصم الدول الأعضاء، بعد الانضمام المرتقب لقيرغيزستان صيف العام الحالي. 
ويضيف بايفر أن الاتحاد الجديد يسعى إلى تأسيس أسواق موحّدة في مجال السياحة والبناء والتجارة والتنقل البشري الحرّ بين دول الاتحاد، وحرية تنقل رؤوس الأموال والسلع والخدمات، والتركيز على توسيع المساقات الاقتصادية في 40 مجالاً. وتحتاج هذه الطموحات على الأقل نحو 10 سنوات لتحقيقها. في المقابل، ليس متوقعاً أن يتمكّن الاتحاد الأوروبي من التغلب على تبعات الكساد الاقتصادي الذي ألمّ به منذ عام 2008، وأهمّها رفع معدّلات النمو بشكل ملحوظ، والذي ما يزال يراوح عند الصفر، أو أقل من 1% من معدلات الدخل القومي في دول المنظومة الأوروبية. ما يثبت أنّ الحصار الاقتصادي سيفٌ ذو حدّين، وغير قادر، أينما وجد، على تحقيق الأهداف السياسية بيسر، ومن دون تضحيات، كما يتوقّع قادة سياسيون عديدون، فلن تتخلى روسيا عن القرم، سواءً بقي بوتين في السلطة أو فاز مناوئوه بمنصب الزعامة، فهناك اتفاق سياسي من الأطياف الروسية كافة على ضرورة الاحتفاظ بالقرم، ولن يتراجع بوتين كذلك عن تسليح الأنظمة الحليفة، وفي مقدمتها نظام الأسد، وسيطرح بين حين وآخر مبادرات لعقد اجتماعات موسّعة في الشأن السوري، من دون وقف تدفق أسلحة دماره الواسعة إلى هناك.     
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح