تأملات عالق

27 اغسطس 2014

أسرة فلسطينية على جسر اللنبي إثر حرب حزيران 1967(أ.ف.ب)

+ الخط -


بينما لا تزال غزة مصلوبة، وتُرشق بحمم متفجرةٍ، لم يتلق بشر مثلها؛ ويلتزم الجميع، في الزمن العبري، بمقولةٍ توراتيةٍ تقرر، بصراحة، أن غزة "ستكون متروكة من وجه الرب"؛ انضم محسوبكم منذ أسبوع، مع أطفاله، إلى جموع من أبنائها العالقين من ماليزيا إلى البرازيل. وهؤلاء حتى عندما يريدون الانضمام إلى الناس الماكثين تحت القصف، فإنهم يتحاشون مرارات العبور من المطارات والمنافذ. وليت ما يلاقونه قد لاقته مجموعات بن لادن قبل أن "تغزو" نيويورك وتدمر بُرجيها. فالانتحاريون الذين صنعوا ذلك الحدث المروّع، لو كانوا "غزاويين" لم يكونوا سيصلون أصلاً إلى البر الأميركي، ولا سينعمون بأريحية الطائرات والمطارات، ولن يكون من بينهم من تلقى تأهيلاً لقيادة الطائرة، أو سُمح له بدخول قمرتها. والفلسطينيون لا يرغبون في تدمير أبراج بلد أو شعب!

ثمّة مفارقات، يزدحم بها مشهد احتباس محسوبكم أنفاسه مع أطفاله، في انتظار السماح لشخصنا الغزاوي بدخول الضفة، حيث مركز العمل ومقرات يُنهي معها إجراءات التقاعد الطوعي. فهو هنا، في العاصمة الأردنية عمّان، يحل زبوناً في سوق العقار المفروش، وهذه سوق متغولة. عيون الباعة التجار والمستثمرين فيها، ومعهم مستخدموهم البارعون، تقدح طمعاً وشراهة، وتعطيك إشارة مقتضبةً لأن تدع جانباً كل شىء لا علاقة له بالدينار. فلا عاطفة هنا، ولا ضرورة لشرح المشروح. هم يعرفون تطورات كل النكبات. وفيما هم يتابعونها من شاشات التلفزة، يتأكدون أن السوق سوف تنتعش حتماً، فقد زادت مساحة التوسع الحضري للمكان نحو عشرة أضعاف، منذ أن وصلتُ اليه للمرة الأولى، مناضلاً في إهاب نازح. وليس أطرف، ولا أشد مرارة، من أن يحل الكساد في مكان، كلما تراجعت المصائب في الجوار.

ولكي نذكر الفضل لأهله، يتعين الإشارة هنا، إلى أن أصدقاءً كُثراً؛ ألحّوا على العبد لله بالإقامة عندهم، لكنني اعتذرت بسبب وجود أطفالٍ يلعبون ويتشاجرون، وسأضطر عندما أكون ضيفاً، إلى التشدد في كتمانهم وحصارهم، بينما أخوكم يولي جُل اهتمامه لحصار غزة وكتمانها وانفجارها، وللحروب بين العرب والعرب.

تغيرت الدنيا في وطننا الكبير. الإحباطات أفقدت معظم الناس حساسية التلقي للنبأ المهين التي تتبعها ردود أفعال لافتة ومؤثرة. مرت على أمتنا أوقاتٌ لا يصلح في وصف جمالياتها سوى الشعر والبيان البليغ. ففي مستهل ثلاثينيات الأردن على سبيل المثال، شدد الفرنسيون الضغط العسكري على ثوار سورية، فلجأ نفرٌ من زعمائهم إلى الأراضي الأردنية للاحتماء ببني صخر. ولما اعتقلهم البريطانيون، أحس بنو صخر بجرح كرامتهم، فاختطفوا قائد الشرطة البريطاني، وبادلوه بعد ذلك بضيوفهم الذين حلّوا في مضاربهم مُكرَّمين، من دون أن يدقق المضيفون في مذاهبهم، أو أصولهم القبلية!    

عمّان، ومهما تخللها من أسواق ومعاملات لئيمة، كانت وستظل مدينةً حميمة ذات رائحة فلسطينية خاصة. وأردنيتها البدوية ذات شقين متلازمين، أحدهما ينسجم مع تاريخه المفعم شهامة، والآخر يحاول معاندة وقائع تأسست، ويكابر في مجاهدة حال انصهار في بوتقة وطن، وقد تملكته الحيرة، لعدم وجود خيار أوسط بين الطلاق واستمرار الحياة الزوجية. لعله مثال نادر على خارطة الكون، يستبد فيه الإحساس لدى مجموعة بشرية، داخل وطن، بأنها صاحبة الحق في كل شيء من الرزق المتحصل من الدولة، على أن تأخذ المجموعة الأخرى ما تستطيع دون ذلك، فيرفد حضورها خزانة الدولة بما يعينها على الصرف!

ضمن سحابة التأمل، يطرأ من السياسة في ذهن العالق ما يتصل بموقفه في هذه اللحظات، وتشتعل الأسئلة: عندما كانوا يضغطون لاستئناف المفاوضات (وكل هؤلاء معلومون) ألم يكن بمقدور الجانب الفلسطيني تضفير قبوله العودة إلى التفاوض، بتلبية متطلبات أساسيةٍ سيؤيدها المتدخلون، وهي أن تعود أمور الضفة إلى ما قبل 28/10/2000، بعد أن "أدت السلطة ما عليها من التزامات وفق خارطة الطريق"، حسب واحدة من محفوظات أخي صائب عريقات؟ تعبير "أدت ما عليها" يتعلق هنا بالأمن حصراً. أما تعبير العودة إلى ما قبل تاريخ اندلاع الانتفاضة الطويلة الثانية، فإنه يعني أن تكون الضفة وغزة وحدة سياسية وإدارية واحدة، حسب اتفاق "أوسلو" لإعلان المبادىء. معنى ذلك أن يتمكن من يحمل هوية غزة، من الدخول إلى الضفة وقتما شاء، وعندما يدخل من الجسر، لا يحتاج تصريح مرور في أراض باتت ضمن دولة إسرائيل.

أنوّه، هنا، إلى أنني وزوجتي وأطفالي مصرون على البقاء في الوطن، في الضفة مؤقتاً لضرورات إدارية، وفي غزة تالياً ونهائيا. ذلك على الرغم من أننا نحمل تأشيرات دخول سارية، تجعلنا قادرين على السفر إلى أوروبا وبريطانيا الهانئتين، بل إن أحد أطفالي يحمل الجنسية الأيرلندية، إذ ولد في بلفاست البديعة، وحصل على جنسية دَبلن. لكنه الوطن!