16 نوفمبر 2024
تأملات بشأن قضية خاشقجي
منذ الإعلان عن اختفاء الكاتب الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول، فرض عليّ عملي الصحافي متابعة تطورات القضية بكل تفاصيلها، بالإضافة إلى معرفة كل المعلومات الممكنة عن الرجل وتاريخه وكتاباته ولقاءاته الإعلامية وتصريحاته وأنشطته وكل ما يتعلق به.
لم ألتق الرجل، إلا أن إعجابي بسيرته، وإن اختلفت مع عدد من مواقفه، تزامن مع شعورٍ بالألم من تفاصيل الحادث، خصوصا الغدر الذي تعرّض له خاشقجي في مكانٍ من المفترض أن يشعر فيه بالأمان. ولفت نظري النشاط المكثف الذي قام به خاشقجي في العام الأخير، وكأنه كان يعوّض الفترة التي أجبر فيها على التوقف عن الكتابة والتغريد والمشاركة في الحياة العامة، أو ربما كان يشعر بأن وقته محدود في هذه الدنيا.
وعلى الرغم من تقلباتٍ مرّت بها حياته، بدءا من الاقتراب من دوائر الحكم، ثم الابتعاد عنها، حتى نبذه بشكل كامل، إلا أن جمال خاشقجي جمع بين عدة خصال ثابتة، لازمته طوال حياته، وأثارت في نفسي مشاعر الإعجاب والتقدير، فهو لم يكن يوما محرّضا على قتل أو اعتقال أي شخص، مهما كان مختلفا معه، ولم أعرف عنه أي موقف أبدى فيه شماتةً، أو أعلن فيه سروره من موت أي إنسان أو مرضه، بل بالعكس ترحم على الضحايا والشهداء الذين سقطوا في كل أرجاء الوطن العربي. وكان تواضعه ونبله مع الخصوم قبل الأصدقاء مما يشهد به الجميع، كما عرف عنه تأييده الثورات العربية ودعوته إلى توفير مساحة أكبر من الديمقراطية للشعوب العربية، بالإضافة إلى شجاعته في الوقوف في وجه واحدٍ من أكثر الأنظمة القمعية التي مرت على المنطقة، بل وحتى في تاريخ المملكة نفسها، وامتلك شجاعة التراجع عن مواقف خاطئة اتخذها في أوقات سابقة، مثل موقفه من حرب اليمن التي أيّدها في البداية، قبل وقوع الخسائر الكبيرة في صفوف المدنيين، ثم أيد الحل السياسي وإيقاف الحرب، بعد أن تسببت في كارثة إنسانية، فضلا عن إخلاصه العميق للقضية الفلسطينية التي كانت تغريدته الأخيرة عنها، وكأنها كانت وصيته.
أما الصفة الأهم التي تأملتها في جمال خاشقجي فكانت حرصه الكبير على أن يتمتع بحريته في قول ما يريد، وكتابة ما يراه صوابا، وهو حرصٌ دفعه إلى التضحية بعمله وخسارة وجوده
وسط أهله وأسرته واتهامه بالخيانة والعمالة، حتى يحرص على أن يكون حرّا، وأن يقول كلمته ويمشي، مثلما كتب على حسابه في موقع تويتر، فلم يتحمّل أن يمنع من الكتابة والتغريد واللقاءات الفكرية والإعلامية عدة أشهر، وأحس بالإهانة، فكان أن اتخذ قراره أن "لا سكوت بعد الآن". ويبدو مرة أخرى أنه أحسّ أن العمر لم يعد فيه متسع، وأنه إما الآن أو لا إلى الأبد، ليكون عامه الأخير هو الأروع والأنصع في حياته على الإطلاق، بعدما عبّر عن مواقفه بكل وضوح واستقامة، لم يكن ليستطيع التعبير عنها في مراحل كثيرة من مسيرته.
وعلى الرغم من عدم الإعلان رسميا عن وفاة خاشقجي، إلا أن احتمالات وجوده على قيد الحياة تتضاءل كل يوم للأسف الشديد، وبات سيناريو الاغتيال الأقرب إلى الصحة، مع توفر عشرات القرائن على تلك الرواية، وهو ما يشكل خسارة فادحة للصحافة العربية.
رحم الله الأستاذ جمال خاشقجي. كانت نهايته حزينة، لكنها شجاعة ومشرّفة في الوقت نفسه، كما كانت سيرة حياته ملهمةً لنا، وتجعلنا، نحن الصحافيين، نشعر بالفخر أن واحدا ممن يمتهنون مهنتنا كان مؤثّرا كل ذلك التأثير، إلى الدرجة التي جعلت نظاما كاملا يستنفر من أجل إسكات شخصٍ لا يملك غير قلمه وصوته، وأن يتسبّب استهدافه بذلك القدر الكبير من الضجّة العالمية، لتطبق شهرته الآفاق، وتنتشر كتاباته وأفكاره وإسهاماته بشكلٍ ربما لم يكن ليتخيله هو شخصيا في حياته. ونسأل الله أن نكون سائرين على دربه الشجاع، وأن تكون دماؤه لعنةً على قاتليه.
لم ألتق الرجل، إلا أن إعجابي بسيرته، وإن اختلفت مع عدد من مواقفه، تزامن مع شعورٍ بالألم من تفاصيل الحادث، خصوصا الغدر الذي تعرّض له خاشقجي في مكانٍ من المفترض أن يشعر فيه بالأمان. ولفت نظري النشاط المكثف الذي قام به خاشقجي في العام الأخير، وكأنه كان يعوّض الفترة التي أجبر فيها على التوقف عن الكتابة والتغريد والمشاركة في الحياة العامة، أو ربما كان يشعر بأن وقته محدود في هذه الدنيا.
وعلى الرغم من تقلباتٍ مرّت بها حياته، بدءا من الاقتراب من دوائر الحكم، ثم الابتعاد عنها، حتى نبذه بشكل كامل، إلا أن جمال خاشقجي جمع بين عدة خصال ثابتة، لازمته طوال حياته، وأثارت في نفسي مشاعر الإعجاب والتقدير، فهو لم يكن يوما محرّضا على قتل أو اعتقال أي شخص، مهما كان مختلفا معه، ولم أعرف عنه أي موقف أبدى فيه شماتةً، أو أعلن فيه سروره من موت أي إنسان أو مرضه، بل بالعكس ترحم على الضحايا والشهداء الذين سقطوا في كل أرجاء الوطن العربي. وكان تواضعه ونبله مع الخصوم قبل الأصدقاء مما يشهد به الجميع، كما عرف عنه تأييده الثورات العربية ودعوته إلى توفير مساحة أكبر من الديمقراطية للشعوب العربية، بالإضافة إلى شجاعته في الوقوف في وجه واحدٍ من أكثر الأنظمة القمعية التي مرت على المنطقة، بل وحتى في تاريخ المملكة نفسها، وامتلك شجاعة التراجع عن مواقف خاطئة اتخذها في أوقات سابقة، مثل موقفه من حرب اليمن التي أيّدها في البداية، قبل وقوع الخسائر الكبيرة في صفوف المدنيين، ثم أيد الحل السياسي وإيقاف الحرب، بعد أن تسببت في كارثة إنسانية، فضلا عن إخلاصه العميق للقضية الفلسطينية التي كانت تغريدته الأخيرة عنها، وكأنها كانت وصيته.
أما الصفة الأهم التي تأملتها في جمال خاشقجي فكانت حرصه الكبير على أن يتمتع بحريته في قول ما يريد، وكتابة ما يراه صوابا، وهو حرصٌ دفعه إلى التضحية بعمله وخسارة وجوده
وعلى الرغم من عدم الإعلان رسميا عن وفاة خاشقجي، إلا أن احتمالات وجوده على قيد الحياة تتضاءل كل يوم للأسف الشديد، وبات سيناريو الاغتيال الأقرب إلى الصحة، مع توفر عشرات القرائن على تلك الرواية، وهو ما يشكل خسارة فادحة للصحافة العربية.
رحم الله الأستاذ جمال خاشقجي. كانت نهايته حزينة، لكنها شجاعة ومشرّفة في الوقت نفسه، كما كانت سيرة حياته ملهمةً لنا، وتجعلنا، نحن الصحافيين، نشعر بالفخر أن واحدا ممن يمتهنون مهنتنا كان مؤثّرا كل ذلك التأثير، إلى الدرجة التي جعلت نظاما كاملا يستنفر من أجل إسكات شخصٍ لا يملك غير قلمه وصوته، وأن يتسبّب استهدافه بذلك القدر الكبير من الضجّة العالمية، لتطبق شهرته الآفاق، وتنتشر كتاباته وأفكاره وإسهاماته بشكلٍ ربما لم يكن ليتخيله هو شخصيا في حياته. ونسأل الله أن نكون سائرين على دربه الشجاع، وأن تكون دماؤه لعنةً على قاتليه.