بلغة الماليالم، وهي لغة ولاية كيرالا الهندية، خصّ الروائي والسينمائي الهندي ب. ك. باراكدافو P. K. Parakkadavu فلسطين بواحدة من رواياته أعطاها عنوان "عشق الرعد والبرق"، متحدياً كما يقول عقلية طبقة المثقّفين العليا هناك، المتردّدة في قبول حق الفلسطينيّين في المقاومة، بعمل إبداعي يجد صدى واسعاً لدى أهالي كيرالا التي تكاد تكون أكثر المناطق خارج "الشرق الأوسط" اهتماماً بفلسطين.
جاء في تقديم الكاتب لروايته أنه "قرأ كتباً كثيرة وهو يجلس على رمال الشاطئ موضوعها تاريخ فلسطين وجذوره الممتدّة في الماضي البعيد والقريب". وحين كان يكتب روايته هذه، كانت تحدّثه رسوم سامية حلبي ومرنا باهر و"تمر الطائرات القاذفة فوق الطيور وهي تشرب الماء من نهر"، ويضيف: "وأنا أكتب، رأيتُ غسان كنفاني وأوراق الزيتون وأزهار نيسان الحمراء أمامي".
صفحات الرواية لا تتجاوز الخمسين صفحة عدداً من القطع المتوسّط، إلا أنها غنية بتفاصيل صغيرة معبّرة عمّا هو وراء الكلمات، بصور وأحداث يومية تصل القارئ بروح مقاومة الفلسطينيين التي لا تهدأ، في نسيج واحد مع ثقافتهم وتاريخهم، ومع الألم والدموع وتوق شعب مقتلَع من أرضه إلى السلام والأرض في وطنه. وفي كل هذا، يمحو الكاتب الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر، فيقدّم "مثلاً رائعاً من أمثلة تناول القضايا السياسية فنياً"، على حد تعبير مواطنه الشاعر ك. ستشدانندن.
محور الرواية تواصُل الشاب فرناس مع حبيبته آلاميا بوساطة أشعار شعراء فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وعبارات روائيين، ليرفع من معنوياتها وسط قصف القنابل وصواريخ الطائرات الإسرائيلية. ويلجأ الكاتب إلى هذا الأسلوب التعبيري عن واقع مقاومة حي، لأنه يعتقد أن "الفن والأدب بالنسبة إلى الفلسطينيين ليس نشاطاً غايته التسلية، بل هو أداة مقاومة"، ويمكننا حسب تعبيره "الشعور بالنار في كتاباتهم، وبخاصة في الشعر، فكل قصيدة جميلة هي فعل من أفعال المقاومة".
ولهذا، يظهر عدد من الشعراء في مواقف معيّنة، فيظهر محمود درويش على سبيل المثال حين يود "فرناس" أن يُشعر "آلاميا" بمحنة الفلسطينيين الذين تتعرض هويتهم إلى الانتهاك في وطنهم ذاته، فيردّد سطوراً من قصيدة له يقول فيها:
"لا تسألوا الأشجار عن اسمها
لا تسألوا الوديان عن أمها
من جبهتي ينشق سيف الضياء
ومن يدي ينبع ماء النهر
كل قلوب الناس.. جنسيتي
فلتُسقطوا عني جواز السفر"
ويلجأ "فرناس" إلى الشعر ليكبت غضبه على قصف الإسرائيليين لمستشفى في غزة يقتل الكثير من الأطفال، وهو يعيش أجواء الجحيم الذي تخلقه الغارات الإسرائيلية. كل شيء في حياة الفلسطينيين، كما بالنسبة إلى فرناس، يرتبط بوطنهم، حتى قضايا حبهم. في أحد اللقاءات تسأل آلاميا وهما ينظران إلى لوحة مؤلمة موضوعها مذبحة صبرا وشاتيلا: "لماذا لا يمكننا رسم أزهار؟" فيرد فرناس: "في الوقت الذي يكتبون فيه التاريخ بالدم، كيف لنا أن نحلم بالأزهار والطيور؟". ثم يضيف: "أحبك.. ولكنني أحب فلسطين أكثر". وحين تقول آلاميا: "أنا معك"، يصحح عبارتها بالقول: "أنت مع فلسطين أيضاً".
كلاهما يحلم بفلسطين سالمة وآمنة. وأمام مشهد الأطفال وهم يرقصون بين أشجار السرو والزيتون، يودعها بقبلة على جبينها قائلاً: "إذاً، دعينا نحب فلسطين". وفي موقف آخر، وبعد استشهاده، تقول، وهي تتذكّر سهرة لهما معاً، تحضر فيها سطور من قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب أنشودة المطر:
".. قضينا معظم الليل تقريباً معاً، نتحدّث عن الحب والحرب والموت، وقرأتَ من قصيدة:
عيناكِ حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يرجّه المجذافُ وهناً ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما النجوم".
وتصل الرواية، أو حكاية المحبَّين وسط الدمار والأنقاض، ذروتها بأن يعرّف فرناس حبيبته بغاندي حين يلتقيه في مشهد متخيَّل في الفردوس بالقول: "هذا هو المحارب الذي قال، مثلما أن إنكلترا للإنكليز، وفرنسا للفرنسيين، والهند للهنود، فإن فلسطين هي وطن الفلسطينيين".
وفي مكان آخر يقول المؤلّف: "إن سعي غاندي ذاته إلى العدالة هو الذي دفعني إلى إعلان تضامني مع القضية الفلسطينية".
في هذا الموقف لم يكن باراكدافو وحيداً، فهذا مواطنه ف. أ. كبير، وهو من كبار الصحافيين، يُلحق بالرواية مقالة له يكشف فيها للناطقين بلغة الماليالم طبائع الاغتصاب الإسرائيلي، فهو لم يتوقّف عند اغتصاب الأرض فقط، بل امتد إلى محاولة محو فلسطين من ذاكرة الإنسانية، ويشير إلى الكميات الضخمة من كتب ومخطوطات المكتبات الخاصة والعامة التي نهبها المحتلّون الصهاينة أو دمّروا بعضها. ويذكّر القرّاء بأن فلسطين قبل عام 1948 كانت مركزاً لمثقّفين ونقّاد أدب وكتّاب وموسيقيين قبل أن تُدمَّر غالبية قراها وأحياء مدنها الرئيسية، ويقتل الاحتلال الإسرائيلي حياتها الثقافية.
يشرح قصة هذه السرقة الثقافية الضخمة التي ظلّت مجهولة بالنسبة إلى العالم، بما فيه العالم العربي، إلى أن وثّقها السينمائي الألماني الذي يحمل جنسية المستعمرين الصهاينة في فيلم حمل عنوان "سرقة الكتب العظمى"، والتي كانت عملية نهب هدفها، كما لاحظ المؤرّخ الإسرائيلي، الذي غادر فلسطين وأقام في بريطانيا، إيلان بابيه: "إلحاق الهزيمة برواية الفلسطينيين ومحو وجودهم من صفحات التاريخ". ويختم الصحافي مقالته بالقول: "ومع ذلك، ومع كل هذه المحن والكوارث التي لم يروها أحد على أسماع العالم، بهذه الرواية وأمثالها تجد فلسطين لها مكاناً في أدب لغة الماليالم".
ومن جانبه يؤكد ب. ك. باراكدافو على هذه الفكرة بالقول: "مثلما شارك المفكّر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد الشبّان بأن رمى حجراً من وراء أسلاك الحدود، روايتي هي إعادة تأكيد على رواية الفلسطينيّين، وهي إعلان عن تضامني مع فلسطين بطريقتي الخاصة".