بيوت الأسرى الفلسطينيين "تُنسى كأنّها لم تكن"... شهادة بقلم زوجة أسير

29 فبراير 2020
حناتشة مع أسرته (الصورة من عائلة الأسير)
+ الخط -
"الأطفال يريدون قصة قبل النوم"... هذه "تناحة" (عناد) لا يمكن تجاهلها إطلاقاً، فهي مطلب شعبي لا بدّ لك من الانصياع له، وإلاّ ستكون العواقب وخيمة جداً، وستتكاثر الطلبات قبل النوم كتسونامي، يطفو على سطحه كثير من الأسئلة، تبدأ بشرب الماء والشرط الأساسي "بالكاسة المرسوم عليها هالك" أو قضاء الحاجة للمرة الخامسة، أو تنظيف الأسنان للمرة الثالثة، أو التذكر فجأة بأنّ البيجامة غير مريحة ومن الضروري تبديلها، وسيجيب طفلك حينها عن كلّ الأسئلة التي رفض الإجابة عنها عندما طرحتها عليه بعد أخذه من الحضانة، وسيكرر لك ماذا أكل اليوم، وماذا قالت له المعلمة، ولماذا أخذ كنان لعبته، بالإضافة إلى جميع أسئلته الوجودية هو هذه المرة، وهي أسئلة تكون في حاجة مسبقاً لتحضير إجابات نموذجية لها.

أنقذتني قصة "الخنازير الثلاثة"، وبدأت، عندما وصلت الخنازير إلى سنّ الاعتماد على النفس، وشقّ كلّ واحد فيهم طريقه بنفسه وتفرّغ لبناء بيته؛ همّ الأول ببناء بيته من القش، فيما اختار الثاني الخشب، أما الثالث فبنى بيته من الطوب، وعندما جاء الذئب، لم يستطع التغلّب على البيت الأخير المتين، لكنّه بنفخة منه أذهَبَ مع الريح بيتي القش والخشب.

انتهت القصة بسلام، وأنا أتوق إلى كوب النسكافيه المنشود، الذي سأشربه وحدي "على رواق" لكنّ خالد باغتني: "الآن يجب أن تسألينا ما الذي نتعلّمه من القصة". بالضبط: ماذا نتعلم من القصة؟
- أن نتعب تعباً إضافياً قليلاً كي نبني أساساً متيناً من حجر، فلا يتمكّن أحد من هدم تعبنا.
خالد: هذا الكلام غير صحيح، فبيت "عمو وليد" من حجر وسيهدمه الإسرائيليون.
هكذا انهدم عالمي بأكمله بكلمات خالد. فكم أنت هشّ أمام إجابات أطفالك وتفكيرهم؟ بماذا سترمم هذه الإجابة؟ لا دليل معك سوى دمعتك.
تابع خالد: لديّ فكرة؛ إذا بنينا بيتنا من حديد، لن يتمكن الإسرائيليون من هدمه... صح ماما؟

لا أعرف إجابة تفي بإقناعه، وإفهامه أنّ صلابة مواد البناء ليست المشكلة، إنّما هناك احتلال غاشم يسحق الأخضر واليابس، وكلّ ما هو قابل للحياة. أردت التحدث معه عن القبة الحديدية التي في داخلنا، والتي تعترض فنون الاحتلال الزاخرة في القتل والدمار، لكنّ طفلاً في الخامسة من عمره لن يفهم ضرب الجنون هذا، فاستسلمت وأجبته أنّها فكرة مبدعة فعلاً، ويجب أن نجرب الصفائح الحديدية ذات يوم.

الأسير يزن مغامس (من عائلة الأسير) 

أقرّت "محكمة العدل الإسرائيلية العليا"، أخيراً، هدم منازل بعض عائلات المناضلين الفلسطينيين المتهمين بتنفيذ عملية "عين بوبين"، الواقعة داخل حدود 1967، في الضفة الغربية المحتلة، في شهر أغسطس/ آب 2019، ومنهم: يزن مغامس ووليد حناتشة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني. لا ينفك الاحتلال بمفاجأتنا، وظلّ يمارس عقوبات جماعية ضدنا، أكثرها إجحافاً سياسته الممنهجة لهدم المنازل، إذ حدد نظام الاستعمار الصهيوني الأول من مارس/ آذار 2020 يوم ابتداء المهلة النهائية لتنفيذ قرار الهدم لكلّ من العائلتين، ما يمكّن سلطات الاحتلال من هدم المنزلين ابتداءً من التاريخ المذكور المنصوص في قرار الهدم، من دون الإجابة عن سؤال: متى؟ غالباً ما سيأتون كاللصوص في الليل، لإتمام مهمتهم من دون تشويش؛ سيغضب حينها الإعلام المحلي يومين أو ثلاثة ليس أكثر، أما الإعلام الدولي فـ"لا مين شاف ولا مين دري".

وبين "ندّد" و"استنكر" و"أدان" والصنوف البلاغية كافة، يضيع الكثير، ولا بد من أن تقف الضمائر الحرة في العالم، وكلّ من يؤمن بالقضايا العادلة إلى جانبنا، وقفة تتعدى حدود التضامن فقط، وأن تتحمل دول الطرف الثالث مسؤولية منع الانتهاكات المستمرة للقانون الإنساني من خلال التحقيق والمقاضاة وحجب المساعدات. وكذلك التعاون لوضع حد للانتهاكات الجسيمة، بما في ذلك وضع التدابير العقابية على الدول التي تمارس فعل الانتهاك، ضمن مبادئ القانون العرفي الدولي والسوابق القضائية، وممارسة ضغط فعلي على المجتمع الدولي وعلى سلطات الاحتلال لوقف هذه الانتهاكات، والمساهمة في محاسبة نظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري الإسرائيلي على جرائمه المستمرة بحق شعبنا الفلسطيني، ووضع حد لسياسات العقاب الجماعيّ.

منزل يزن مغامس في بلدة بيرزيت (من عائلة الأسير) 

ولأنّ "اللي باكل العصي مش زيّ اللي بيعدها"، أطلقت مجموعة من المحامين/ات والناشطين/ات والمدافعين/ات عن حقوق الإنسان حملة لمناهضة سياسة العقاب الجماعي الصهيونية الممارسة ضد أهالي المناضلين الفلسطينيين- شهداء كانوا أو أسرى- والتي يعدّ هدم منازلهم أبرزها، داعين إلى تحفيز وسائل الإعلام المحلية والدولية على حد سواء، لتسليط الضوء على قضية هدم المنازل، كشكل من أشكال العقاب الجماعي والنقل القسري، واعتبارها جريمة حرب، لتصبح أولوية على جدول أعمال الأمم المتحدة، والضغط على المحكمة الجنائية الدولية لإضافة العقوبة الجماعية إلى لائحتها الخاصة بالجرائم التي يمكن مقاضاتها، ما يساهم في وضع حدّ لإفلات السلطات الإسرائيلية من العقاب، وضرورة مساعدة الضحايا على تقديم قضايا العقاب الجماعي إلى قسم المحكمة الجنائية الدولية والهيئات الدولية الأخرى المكرسة لتسهيل مشاركة الضحايا في الإجراءات القضائية، والمواصلة نحو عزل نظام الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلي بشكل كامل، ودعم حركة المقاطعة (بي دي إس).

في لقاء دافئ بين أم يزن مغامس وزوجة وليد حناتشة، سألت الأخيرة الأولى: "شو يا أم يزن، شو (ما) أخبار داركم؟". وكعادتها هادئة ومبتسمة، ردّت أم يزن: "بتسلّم ع داركم!". وضحكنا جميعاً من عبارتها التي تعني حالنا من حالكم. كان نوعاً من النكات السمجة المتهكمة الثقيلة والمؤلمة والحزينة والساخرة معاً، نكتة مصلوبة أمام مشيئة الاحتلال، مع ذلك قابلت السؤال بابتسامة لا تأبه هذا البطش كله، ابتسامة صمود وتحدٍ، غير شبيهة بابتسامة "ما باليد حيلة". أبداً لا تشبه تلك، إنّما تشبه ابتسامة "طز بهذا الاحتلال المتخبط" نحن لا نأبه بهم. تروي أم يزن: "هذا البيت ليس لي فقط بل بيت العائلة، بيت أهلي وأخوتي، لمّ وحضن كثيراً من الأطفال، وعشنا فيه كلّ أفراحنا وأتراحنا، والآن، يفترض وبقرار من المحتل أن يصير في مهب الريح، لا يهدم فقط بل يُنسى "يُنسى كأنّه لم يكن"، كما قال محمود درويش.

أما ملك (12 عاماً)، ابنة وليد حناتشة، فرثت بيتها: "من الطبيعي أن تفقد شيئاً ما في الحياة، لكنّ فقدان المنزل الذي عشتَ فيه طوال حياتك يعني فقدان جميع الذكريات وجميع الضحكات، وجميع الدموع، وكلّ فرحٍ وحزن عشته فيه".


لمَ تضطر أمهاتنا وبناتنا إلى رثاء بيوتهن، وتعداد مآثر الحجارة، كما نفعل في جنازات موتانا؟ لمَ يضطررن للاقتلاع من جذورهن، ورميهن في تربة أخرى بين ليلة وضحاها لإشباع نقمة لدى الاحتلال نحونا؟ لمَ كلّ هذا السكوت المعيب للمجتمع الدولي وإعلامه، صمت مُحبَكٌ ومقصود؟ لم على العالم الذي يدّعي العدالة والانحياز إلى الحق، ونصرة المستضعفين، أن يسمح بهذا الانتهاك الصارخ وأن يسمع دويّ الصرخة، ويسد أذنيه عن ذلك عنوة؟ ولم على أطفالنا، بدل أن تبعث قصص قبل النوم في قلوبهم السكينة والأمان، أن يبتدعوا حلولاً لبناء بيوت من حديد خشية هدم الاحتلال لمنازلنا؟

* زوجة الأسير أبيّ العابودي.