بين مشروع دستور ليبيا والحوار الوطني

15 مارس 2015

ليبيون يتظاهرون في طرابلس ضد مقترحات ليون (6 مارس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

بينما يتجه الحوار الوطني الليبي في مدينة الصخيرات (المغرب) نحو بدء مرحلة انتقالية جديدة، لا تبدو في الأفق مؤشرات لانتهاء من مشروع الدستور، ما يعني وجود أنماط غير متماثلة في الوضع الانتقالي الجديد، ما يعزز إعادة إنتاج المشكلات السياسية، أو استمرار الصراع بشكله الحالي، حيث إن دخول الحوار في اقتراحات انتقالية، من دون النظر إلى دور "الهيئة التأسيسية" وأجل انتهائها من مهمتها، سوف يشكل أرضية لزيادة التناقضات المزمنة لثورة فبراير الليبية، والتي انتهت بمنح الهيئة سلطات أسطورية، تطلق يدها بعيداً عن المساءلة.

وتكشف مؤشرات الحوار الوطني عن وجود خيارات لإعادة تشكيل الحكومة الموحدة، بحيث تتمتع بسلطات استثنائية في إدارة البلاد، سواء كانت حكومة تنفيذية منفردة، أو تعمل تحت مظلة سلطة تشريعية، ما يتطلب إجراء تعديلات على الإعلان الدستوري، بحيث يلبي الإطار السياسي الجديد.

ومن الأهمية وضع إطار للتعامل مع التشريعات التي صدرت منذ 4 أغسطس/آب 2014، سواء من مجلس النواب ومن المؤتمر الوطني، فهذا الميراث القانوني ظهر في ظل ثنائية السلطة، وفي ظل استمرار الصراع السياسي الذي أدى إلى دخول الأطراف في الحوار السياسي، فالمشكلة التي تطرحها هذه التشريعات أنها كانت مرآة لصراع وخلافات السياسية، خصوصاً ما تعلق بالترتيبات الهيكلية في جهاز الدولة والاتفاقيات الخارجية، والتي صدرت عن مجلس النواب، حيث إن استمرار هذه المراكز القانونية سوف يساهم في إثارة الصراع مرة أخرى، ومنها الاتفاق الدفاعي مع مصر وقرار تعيين خليفة حفتر قائداً عاما للجيش، فهذه القرارات تعد قيوداً على الحكومة الانتقالية، وتضعف قدرتها على تسيير المرحلة الانتقالية.

ولعل المسألة المحورية في الوضع الانتقالي في ليبيا تتعلق بوضع الهيئة التأسيسية في هذه المرحلة، فوفقاً للإعلان الدستوري القائم، يعد الانتهاء من مشروع الدستور، في تسوية جزء كبير من الأزمة السياسية، لكن تباطؤ الهيئة في السير بالمناقشات الدستورية يساهم، بوضوح، في زيادة التعقيدات السياسية.

ولكن، لا يبدو أن هذه المسألة لا تشكل النقطة المحورية في مسار الهيئة التأسيسية، فالأمر الأكثر أهمية يكمن في انخفاض قناعة ليبيين كثيرين بقدرتها، وفق تكوينها الحالي، على الانتهاء من مشروع الدستور، حيث تتجاذبها خلافات وصراعات معقدة، فهي تشهد حالة استقطاب على أساس فكري بين الإسلاميين والفيدراليين، كما تشهد صراعا بين المناطق الجغرافية، وهو صراع لا يقتصر على الخلافات الفكرية، وإنما يمتد إلى الصراعات الجهوية والمناطقية، ما دفع أعضاء كثيرين إلى الامتناع عن حضور الجلسات.

ومنذ انعقاد الهيئة التأسيسية في 24 مارس/آذار 2014، توضح المؤشرات أن أداء الهيئة كان محدوداً للغاية، فقد كشفت مقترحات اللجان النوعية التي نشرت على الموقع الإلكتروني للهيئة، أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن استغراق الهيئة في المرحلة الأولية، والتي تتمثل في المقترحات التي تقدمها اللجان والمناقشات المجتمعية.

ومن خلال تناول تلك المقترحات، يتضح أن الوصول إلى مسودة أولية لمشروع الدستور سوف يستغرق وقتاً، يصعب تحديد أجله النهائي، حيث ظهرت مسودات الأعمال، حسب كل لجنة، بما يعني أنها المسودة الأولى التي توصلت إليها اللجان.

وهناك تناقضات كثيرة تكتنف عمل الهيئة التأسيسية، فبينما تتراكم فيها الخبرات القانونية الدستورية، فإن الصياغات المقترحة تعكس حالة من انخفاض مستوى الأداء، كما تعاني الصياغات من ضعف الضبط واتساع الخيارات، خصوصا ما يتعلق بهوية الدولة وشكلها، وهي قضايا سوف تستغرق نقاشاً كثيراً لتحويلها إلى نصوص دستورية، خصوصاً في ظل الصراع والأزمة السياسية حول كيان الدولة وشكل الفترة الانتقالية الجديدة، والتي صارت فيها الفيدرالية الانفصالية من الحلول المطروحة.

وفي الفترة الماضية، ظهرت شكاوى عديدة من تباطؤ تقدم الهيئة بمشروع الدستور، فقد نشر أعضاء ملاحظات عديدة حول مسار العمل في مشروع الدستور، وقد تعلقت هذه الشكاوى بتوقف العمل فترات طويلة، من دون مبررات واضحة، ووقف أعمال اللجان، ما دفعهم إلى الامتناع عن حضور الجلسات، واعتبار أن تأخر الانتهاء من مشروع الدستور لا يخلو من مرامٍ سياسية، ما يعتبر اتهاما صريحا لرئيس الهيئة، علي الترهوني، بسبب تعليقه الجلسات، من دون تفسير أسباب القرارات. وفي هذا السياق، ظهرت مقترحات بتحويل رئاسة الهيئة إلى مجلس رئاسي، بحيث لا يتحكم شخص واحد في تسيير عمل الهيئة.

المعضلة التي تطرحها الهيئة التأسيسية، تكمن في عناصر عديدة، في مقدمتها أن طريقة إدارة الترهوني تتسق مع اتجاهات حفتر والتحالف الوطني في مد أجل الأزمة السياسية، فعلى الرغم من إدراك كل السياسيين الليبيين أن دور الدستور يساهم في حل مشكلات سياسية كثيرة، فإن أداء الهيئة لم يرق عند مستوى التطلعات للخروج من الأزمة السياسية، كما أنها صارت عرضة للتفكك، ما يقلل فرص الوصول إلى مسودة الدستور.

ولعل التحدي الذي يواجه الفترة الانتقالية الجديدة يتمثل في أن الأجل الدستوري للهيئة ينتهي في 24 سبتمبر/أيلول 2015، فتزيد احتمالات عدم الانتهاء من مشروع الدستور، سوف يكون عاملاً مؤثرا في إرباك الفترة الانتقالية، بعد تشكيل الحكومة الموحدة، حيث يتطلب مد فترة عملها إجراء تعديل تشريعي، فيما تكون حالة الاستقطاب كامنة ومتربصة لدى الأطراف السياسية.

وسوف يضعف الوضع الدستوري للهيئة مؤسسات الفترة الانتقالية الجديدة، فوفقاً للتعديل الدستوري السادس تطور وضع الهيئة التأسيسية، وتم تعريفها كـ "هيئة مستقلة استقلالاً تاماً عن السلطة التشريعية"، باستثناء عرض مدى تقدمها في صياغة مشروع الدستور، وهنا يعد تجاوز الهيئة للإعلان الدستوري وعدم الرد على رسالة المؤتمر الوطني في مايو/أيار 2014 بمثابة سابقة في انتهاك الدستور، يمكن تكرارها مرات أخرى، من دون وضوح إطار لمراجعة أعمالها.

ويشكل غياب تمثيل جماعة "الأمازيغ" تحدياً للقبول بمشروع الدستور، حلاً لمسألة الاندماج الوطني، فوفقاً للتعديل الأول للإعلان الدستوري (مارس/آذار 2012) صار تمثيل "الأمازيغ "وجوبياً، وبالتالي، يضعف امتناعهم عن المشاركة في الانتخابات المشروعية القانونية والسياسية للهيئة، باعتبار أن تمثيل المكونات الثقافية كان من شروط تسيير الفترة الانتقالية على أساس الإجماع الوطني، واستيعاب التطلعات المختلفة.

وهنا يأتي اقتراح ترشيح علي الترهوني ضمن المرشحين لرئاسة الحكومة الموحدة، ليطرح جدلاً كثيراً عن تداخل العوامل السياسية في تسيير عمل الهيئة، ولعل العامل المشترك في تفسير تباطؤ الهيئة التأسيسية هو ما يتعلق بتماثل الخلفية السياسية لعدد من النخبة السياسية التي تنافس الأحزاب والكيانات الإسلامية والثورية، فالخلفية الفكرية والسياسية لرئيس الهيئة تقع في المربع نفسه، مع كل من محمود جبريل وخليفة حفتر وإبراهيم الدباشي وعلي زيدان، وعلى الرغم من وجود اختلافات بينية في مواقفهم السياسية، فإن أولوياتهم كانت منصرفة للصراع السياسي والمسلح، وكانت اهتماماتهم بتفعيل الهيئة قليلة للغاية.

ويمكن القول إن الدخول لمرحلة انتقالية جديدة يتطلب إعادة النظر في الوضع الدستوري للهيئة التأسيسية، حيث إن استمرارها وفق الكيفية الحالية سوف يفرض قيوداً كثيرة على المؤسسات الانتقالية، ومن ثم، تكون مهمة الحوار الوطني متمثلة في بلورة مرحلة انتقالية متجانسة، تعالج المشكلات الماضية. وهنا، يكون أمام المشاركين في الحوار خيارين؛ العمل على مراجعة الإطار الدستوري، بما يسمح بتكوين مؤسسات تشريعية وتنفيذية متجانسة ومتكاملة، أو ضبط عمل الهيئة التأسيسية ومراجعته للانتهاء من الدستور، مع نهاية سبتمبر/أيلول المقبل.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .