بين الصورة و ..."لا ديّة ليد لا تكتب"

12 يوليو 2015
الضفة الغربية، فلسطين (Getty)
+ الخط -
بين الصورة والكلمة المكتوبة تسابق قديم وتنازع لم يفتأ متواصلا. علم الآثار والبحوث التاريخية الحضارية يؤكد أن الصورة أقدم من الكتابة التي سوف تظهر لاحقا مع توسع الزراعة والتجارة بما أتاح لها تفوقا تاريخيا على الصورة، من دون أن تتمكن من استبعادها من سيرورة المغامرة الإنسانية الكبرى.

بدأ التنافس خفيا مع لوحات كهوف ما قبل التاريخ التي يبدو أنها كانت للتواصل احتفاليا ودينيا. عندما ظهرت الكلمة المكتوبة فيما بعد وقبل الميلاد سجل التعبير الإنساني المكتوب قدرة على التوسع والتواصل والنفاذ غير مسبوقة.

مع انبثاق الحضارة العربية الإسلامية تأسست "المدينة" مشروعا لتجاوز تعابير ثقافية - اجتماعية بديلة للتذرر في التصور والمشافهة في التعبير والقبلية في الترابط. عندها انتصرت الكتابة وتأكدت بتوسع الحضارة الناشئة في مراكز الثقافة القديمة. بها وبالترجمة نُقل تراث الفكر الإنساني القديم إلى العربية معلنا أوج عصر الكلمة المكتوبة والعقول المستنيرة في حواضر الثقافة العربية. ذلك عصر فيه "الكتّاب ملوك وسائر الناس سوقة" وحضارة من لم يكتب فيها "فيمينه يسرى ولا ديّة ليد لا تكتب" تشريعا لتفاعل حضاري أخرج العرب من ضيق انزوائهم القديم.

مقابل هذا عرف التصوير تراجعا أكيدا لما شاع في العصر الإسلامي الأول من تحريم رغم أن الآيات القرآنية المتصلة بالأصنام إنما حرمتها لما تكرّسه من عبادتها بما يتعين فيها من تقديس يفضي إلى احتمال الارتداد إلى الوثنية التذررية، ذلك أن التحريم لم يكن متعلقا بالدلالة الفنّية والجمالية للصورة وللمصور. هذا ما يفسر الالتباس الذي أحاط بمكانة الصورة في مجال الفن العربي الإسلامي وهو ما لم يجسر عموم الفقهاء على مواجهته لأن المشاغل العقدية وما تتطلبه من تلاحم اجتماعي كانت مقدَّمَة على سؤال الفن والجمال وما يتصل به من حس ونقد متأكدين في كل بناء حضاري.

مع ذلك، ورغم مخاوف رجال الشرع وموانعهم، فقد عرفت الحضارة العربية الإسلامية عناية خاصة بتصوير مختلف الكائنات الحية بروح النَمْنَمَة التي تنأى بالعمل الفني عن المحاكاة التي ينتفي منها التخيل والإبداع. لذلك لم يكن الدافع إلى هذه التقنية التحويرية هو التحريم الذي أعلن عنه عدد من الفقهاء لاعتماد الفن الإسلامي هذه التقنية في كل موضوعاته حتى التي لم تشملها فتوى التحريم مثل الحيوانات والنباتات. على هذا كان الفنان المسلم على وعي بأنه مدعوّ في عمله الفني إلى إنشاء عالمه الذاتي المستقل حيث تتكشف إرادته وحسّه من خلال فعل مصادرهما الكبرى: المخيال والوجدان. ذلك ما جعل التقنية الفنية التجريدية في الحضارة العربية الإسلامية أساسا لصنع القيم وتيسير تمثّلها الثقافي جماعيا. ما ساعد على اتخاذ المسلم هذه الوجهة جملة عوامل بعضها ديني: فقد كان التصوير قاعدة تعبيرية متبعة في جملة الأغراض القرآنية عدا غرض التشريع وكان" المصوّر" اسما من أسماء الله الحسنى ولم تكن الغاية من إنكار التصوير الصورةَ في ذاتها بقدر ما يمكن أن تحمله من اعتقاد امتلاكها لقوى خارقة ومؤثرة في مصير الإنسان وإرادته وسلوكه.

اليوم نعيش عصرا آخر، هو عصر الصورة بلا منازع. لقد هيمنت الصورة على حياة الفرد والجماعات فلم تعد فنّا مكثفا بل غدت طاقة متدفقة وحاضرة في مناحي حياتنا التعليمية والإعلامية والصحية والتجارية والاقتصادية فضلا عن التواصلية والترفيهية. الأخطر هو مواكبة ظاهرة العولمة في إرادتها الانتشارية التسويقية الطاغية وتحكم الصورة في الواقع بشكل حوّل الواقع إلى هامش شاحب. لم يعد الواقع هو الأساس إذ أصبحت الصورة سابقة وممهدة بل هي التي تحدث أولا ثم تتلوها المحاكاة في الواقع.

إنها فرصة تاريخية للكلمة المكتوبة: تقاوم الأمية المستشرية عربيا وتكون وليجة العصر بما توفره من قدرة للوعي الفردي على التحليل والتفكيك وإعادة تركيب الذات والواقع. هو عَوْدٌ للتفاعل الحضاري المصحح للتوازن المفقود بين الكلمة والصورة اللتين تصبحان معا قدرنا في العالم الجديد.

(باحث وأكاديمي تونسي)
المساهمون