بين التربية والترويض

25 سبتمبر 2019
آني ألبرز/ ألمانيا
+ الخط -

في أكثر من كتاب وأكثر من جنس أدبي، يطرح عبد الكبير الخطيبي (1938 - 2009)، مسألة "مجتمع الوصاية" والذي يعرّفه مثلاً في آخر كتبه "الكاتب وظلّه" (2008)، باعتباره مجتمعاً لا يكون فيه القانون إلّا كـ"برّانية مطلقة، تقوم على الطاعة والخوف".

لم يكن الخطيبي لوحده من عبّر عن ذلك، فكل المفكرين الاجتماعيين العرب، وبغض النظر عن تخصصاتهم، من سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا أو تحليل نفسي، سيقفون على ذلك. ولكن على الرغم من هذا النقد اللاذع لمجتمع الوصاية أو "المجتمع الأبوي" بتعبير هشام شرابي أو "خطاطة الشيخ والمريد" بتعبير عبد الله حمودي، فإنّ ما يوحّد بين هذه الكتابات وغيرها هو أنها لم تقدّم لنا نظرية في التربية. لقد فكّرت في التربية بشكل سلبي، فاكتفت برفض تلك التربية القائمة على الوصاية، دون أن تغامر في بناء نظرية في التربية.

طبعاً، لا يمكننا أن نطلب ذلك من علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا، ولا يمكن أن ننتقدهم لأنهم لم يقوموا به، ولكن وجب أن ننتقد الفلسفة العربية الحديثة والمعاصرة والتي لم تنجح في أن تتحول إلى فلسفة اجتماعية، إذ إن فلسفة لا تأخذ سؤال التربية بالاعتبار لم تفهم - برأيي - شيئاً عن دورها بعد، ولم تفهم أن الفلسفة الحديثة، منذ التنوير إن لم يكن قبله، مع النهضة والإصلاح الديني، تفكير في التربية، أو تفكير ضد الترويض، وبلغة الخطيبي أيضاً ضد برانية القانون. ولهذا نعيش القانون في ظل الخوف والطاعة، لا نشعر به ينبع من داخلنا، ولا نشعر به تعبيراً عن حريتنا الفردية ومسؤوليتنا المجتمعية.

سيكتب المستشرق الألماني فان إس في محاورة جمعته باللاهوتي هانس كونغ، أن المسلم يعيش دينه خارجياً، وندرك اليوم، بأننا لا نعيش ديننا وحده بشكل برّاني، بل إن هذه البرانية تحكم علاقتنا بالسلطة والمجتمع، بالأحياء والأموات، بالحداثة والتراث... وأيضاً بالمجال العام الذي لا نشعر بانتماء إليه. وبعبارة أخرى إننا لا نعيشها انطلاقاً من الفرد وحريته، ولكن انطلاقاً من الوصاية. وحين نقول الوصاية، نقول بالضرورة الترويض.

يفرّق إمانويل كانط بوضوح بين التربية والترويض، معتبراً أن التربية هبة التنوير. فهدفها خلق مواطن حر الإرادة، في حين يهدف الترويض إلى خلق أتباع. يكتب كانط في كتابه "عن مفهوم التربية" الآتي: "يمكننا أن نروّض الإنسان ونلقنه بشكل ميكانيكي، أو أن نعمد فعلاً إلى تنويره. يمكننا ترويض الكلاب والأحصنة، ولكن يمكن أيضاً ترويض الإنسان".

ويؤكد ذلك كلام حمودي عن العلاقة التي يقيمها الشيخ بالمريد، متحدثاً في أكثر من مرة، واستناداً إلى تراجم رجالات الصوفية، عن سلب إرادة المريد من طرف الشيخ؛ "فهم يربَّون مثل الأطفال، والحال أنهم بلغوا سن الرجال!"، أو كلام شرابي عن تلك التربية أو الثقافة التي تؤسّس لغياب المساواة بين الرجل والمرأة، وما يفرزه ذلك برأيه من "غياب مبدأ المساواة في المجتمع".

إن المعركة بين التربية والترويض هي معركة تدور رحاها حول الإرادة، فالترويض، دينياً كان أم سياسياً، همُّه الشاغل كبت هذه الإرادة، ودفعنا إلى قمعها بشكل إرادي، بل وإلى المبالغة والاحتفاء بذلك. ألم يكن كانط صادقاً في دعوته للحؤول دون نشوء عادات لدى الطفل، لأنَّ ذلك يحول دون شعور الطفل بالحرية؟

لكن الترويض يقوم على إنتاج وإعادة إنتاج العادات، وهي التي تتحوّل إلى نوع من التقاليد لاحقاً، كاللطم أو تقبيل الأيدي والأرجل، وبلغة أخرى إلى طبيعة ثانية للإنسان، ويصبح الخروج عليها ضرباً من التهوُّر أو الهرطقة.


* كاتب وأستاذ فلسفة من المغرب

المساهمون