لن تحتاج لقضاء وقت طويل في بيشكتاش كي تألفها. ستنتبه بسرعة أنها ليست منطقة سياحية، وهو أكثر ما سيجعلك تريد السّكن فيها، فيكفي أن ترتاد أحد مقاهيها مرّتين حتى تُصبح معروفًا لدى العاملين فيها مع مشروبك المفضّل وكلبتك أيضًا.. بل كلبتك أولًا. وستشعر كقاطن غير تركي أن بيشكتاش هي منطقتك، وأنَّ الحي الذي سكنته هو الذي ترعرعت فيه وأن المارِّين هم جيرانك وتصبح معنيًّا باجتماعات البلدية وتصبح الكلاب الضَّالة والمصابة في شوارعها وحدائقها مسؤوليتك، تمامًا كالرَّجل المشرَّد الأعرج الذي لا يغادر الحديقة وتعرفه كل القطط والكلاب وخاصة الكلب العجوز الذي فقد إحدى ساقيه واعتكف تحت الشجيرات بعيدًا حتى عن تعاطف المارّة.
فبيشكتاش ببلديتها وشوارعها ومقاهيها وقاطنيها صديقة للكلاب؛ وفي الحدائق العامة، الكلاب هي أولى أسباب التواصل بين المتنزّهين الذين يقصدونها يوميًّا على الأقل عندما يكون الطقس ملائمًا، كي تلعب كلابهم مع بعضها ويراقبونها هم من بعيد وهم يحتسون الشاي على صوت هديل الحمام ونعيق الغربان.
وكمعظم مناطق اسطنبول، تنتشر في بيشكتاش المقاهي على أرصفة شوارعها الداخلية والخارجية، ولكن معظم هذه المقاهي هي مشاريع فردية، ليس لها فروع أخرى، أصحابها يعملون فيها ويتواجدون كل الوقت. لا أسماء وماركات عالمية كثيرة هنا، حتى متاجر الملابس ماركاتها محليّة.
بالإضافة الى المقاهي الكثيرة، تنتشر فيها أيضًا محلّات الراحة على أنواعها والأعشاب والفاكهة المجففة. وتفوح رائحة السمك المقلي من المطاعم الصغيرة التي تقدّم ساندوتشات وشوربة سمك، ورائحة (التنتونيTantuni - )، وهي عبارة عن لحم مفروم مقلي بزيت القطن ويوضع في ساندويتش باغيت مع عصرة حامض أو أكثر.
وحين تشاهد صفًّا طويلًا من الناس في ساحة الميدان، خذ مكانًا لك في هذا الصّف وانتظر دورك، لأن نهاية هذا الصّف هو سيخ شاورما قطره متر، لن يصغر هذا الصف قبل أن يقضي الذين يشكلونه على آخر قطعة لحم من هذا القطر. إن كنت من المجتهدين فجهِّز sauce الطحينة أو "الطراطور" وخذه معك لأنّه بالرغم من روعة طعم هذه الشاورما إلا أنّه ينقصها هذا السائل الطحيني لتكتمل روعة الانتظار.
نصيحة: يفضل ألا تعِيش هذه التجربة "الويك إندية" وحدك، أولًا كي تتناوب مع من معك على الوقوف في صف الانتظار، ثانيًا لأن تناول المشروب وإن في المقهى المقابل أثناء الانتظار يحتاج إلى بعض الرفقة، وثالثًا والأهم فإن تناول هذه الشاورما منفردًا سيحتسب إثمًا عليك لا تمحيه أي حسنة.
لمنطقة بيشكتاش فريق كرة قدم له اسمها، ويُطلق على رابطته لقب "مجموعة السّوق". وتعلم بوجود مباراة عندما ترى الجماهير المتفرّقة تمرّ أمامك وقربك بيونيفورم الفريق الأبيض والأسود قبل وقت المباراة بساعات، كي يتجمَّعوا في حديقة قرب ستاديوم النادي ليشربوا البيرة إلى أن تبدأ المباراة فيدخل بعضهم للمشاهدة من داخل الستاديوم ويبقى الآخرون خارجه يتابعون المباراة عن الشاشات العملاقة، أو يتجمعون في ميدان بيشكتاش بأعداد هائلة أمام شاشة عملاقة أخرى.
سيذكِّرك جمهوره بجمهور نادي النجمة الرياضي اللبناني الموجود دائمًا في الساحات لدعم فريقه، فتشعر أن رابطة مشجّعي هذا الفريق هي امتداد لرابطة مشجعي فريق النجمة. وهذه ميزة إضافية للشعور بانتماءٍ ما إلى الفريق وحكمًا إلى المكان، خاصّة حين تعلم أن سكان هذه المنطقة صوّتوا بـ لا- HAYIR في الاستفتاء الأخير الخاص بالتعديلات الدستورية، وأطلّوا من نوافذ بيوتهم يقرعون على الطناجر احتجاجًا على نتائج الاستفتاء التي أتت بعكس رغباتهم بفوارق بسيطة جدًا.
وفي عيد العمال في الأوّل من مايو، غالبًا ما تنطلق من ساحة بيشكتاش (وبعض المناطق الأخرى التي تعتبر معقل اليسار) مظاهرات معارضة يتخلّلها في معظم الأحيان اشتباكات بين أحزاب اليسار أو المتظاهرين وعناصر الشرطة، وبالرغم من أن هذا اليوم هو يوم عطلة رسمية إلا أن معظم المحلات والمقاهي في بيشكتاش لا تغلق أبوابها. من حسن حظ الذين يمضون أيام عطلهم في المقاهي.
في أيِّ ساعة تمرّ من شوارع بيشكتاش، سيتطاير فوق رأسك وعلى ملابسك ما يشبه القطن الأصفر. قد تظنّه ثلجًا في النهار أو نجومًا في الليل، ثمّ تنتبه أن الأشجار التي تحدّ الشوارع من الجهتين تتشارك معك ما تحمله من جمال فتنثر بعضًا منه عليك.