بيروقراطيّة النفط العربي

09 مايو 2014

خزانات لشركة أرامكو النفطية في السعودية (أرشيفية)

+ الخط -
يمكن القول إن الجهاز البيروقراطي كان من أكبر المستفيدين من ارتفاع كميات إنتاج النفط وأسعاره في الدول العربية النفطية، خصوصاً بعد أزمة النفط الشهيرة في عام 1973. ففي السعودية، مثالاً، في 1975، تشكل مجلس وزراء من 19 وزيراً، وتم تأسيس أكثر من 40 هيئة وشركة عامة، مثل شركتي سابك وتحلية المياه وغيرهما. وازداد عدد موظفي القطاع العام من 37000 في 1962 إلى 245000 في 1979. وكان هذا التوسّع في حجم مؤسسات الدولة، وأعداد موظفي القطاع العام، نتيجة متوقعة لارتفاع هائل في مداخيل الدولة من 2744 مليون دولار في 1972 إلى 22573 مليون دولار في 1974. في الإمارات، زاد عدد الموظفين على المستوى الاتحادي من 10500 في 1972 إلى ما يزيد على 40000 في 1982. أما الكويت، فقد أوصى البنك الدولي حكومتها بإيقاف التوظيف في القطاع العام، لأنه مُكدّس بآلاف يمكن الاستغناء عنهم.
تشير هذه الأرقام، وغيرها، إلى أن الحكومات العربية النفطية كانت توظّف أكثر من احتياجاتها، وأن قرار إيجاد موظفين في القطاع العام لم تكن تسوغه حاجة إليه في الواقع، وأن ريع النفط أعطى الزخم الأكبر لهذا التضخم. واكتسب هذا النمو البيروقراطي قوة دفع ذاتية، فالبيروقراطية توسّع أعداد المتعلمين، خصوصاً بعد تزايد الهوس بالشهادة الدراسية، والذين، بدورهم، يتوقعون عادة الالتحاق بالقطاع العام.

لكن، حجم البيروقراطية المتزايد يجعلها تحمل نقيضها، فالبيروقراطية التي كانت، بالتجربة التاريخية، أداة التحديث والتنمية تصبح، هنا، عائقَ التحديث والتنمية، أي أنها تفقد وظيفتها، من حيث كونها رسول العقلانية والقانونية، والنظام الذي ترسله الدولة إلى المجتمع. ومن باب أولى، ستفقد هذه البيروقراطية وظيفتها التاريخية الأخرى كأداة الدولة في بناء أمة وبالذات في مجتمعات تعاني معضلة التمزّق القومي وتبدو مكوناتها الاجتماعية تتعايش محتفظة بقدرٍ من العزلة بعضها عن بعض. ولتضخم البيروقراطية نتائجه من تدني الإنتاجية، والتنافس على الريع والروتين، وبطء العمل وضعف الإنجاز وبناء علاقات المحسوبية وتهميش القطاع الخاص، وجعله تابعاً، وجعل المجتمع المدني ملحقاً بجهاز الدولة.

ولهذا التضخم تفسيراته أيضاً، النمو السكاني والرغبة في تقديم خدمات لمواطنين أكثر هو التفسير الأشهر، ولكن، إذا تجاوزت نسبة نمو عدد الموظفين في القطاع العام نسبة النمو السكاني، وتجاوزت نسبة المواطنين العاملين في القطاع العام المعدل العالمي في الدول الأخرى، فإن الموضوعية تقتضي البحث عن أسباب أخرى لهذا التضخم.
في أزمات انخفاض النفط، كانت الحكومات العربية النفطية تضع على رأس برنامجها التقشفي إيقاف التوظيف في القطاع العام، وقد يتضمن هذا البرنامج خصخصة هذا القطاع، ما يحمل، في تصوري، شهادة مفادها بأن الحكومات التي رعت تضخم هذه البيروقراطية ترى في تحجيم هذه البيروقراطية مصلحة عامة، وإجراء لا بد منه لإنقاذ الاقتصاد الوطني. أي أنها كانت تعترف، ضمناً، بخطأ التضخم المبالغ به وخطره، ما يطرح سؤالاً عن سبب مجازفة هذه الحكومات، وقيامها بذلك.
في تصوري، أنه، بالإضافة إلى الرغبة في تقديم خدمات عامة لأعداد متزايدة من المواطنين، فإن تضخم البيروقراطية النفطية العربية حمل معه رغبتين: الأولى كانت رغبة في إدخال الطبقة المتعلمة والإنتلجنسيا المحلية الطامحة في جهاز الدولة، والقضاء على إمكانية تحولها إلى عنصر معارض في الدولة، فانتشار التعليم العام جعل لدى مختلف الطبقات الاجتماعية رغبة في المشاركة بالمجال العام، ومنافسة العناصر التقليدية، كزعماء القبائل ورجال الدين. وكانت الدولة تقول عبر هذا التوظيف المتزايد إن المجال متاح للجميع. وبه تم إيجاد الارتباط العضوي مع الدولة.
الثانية كانت الرغبة في تثبيت السيطرة على المجتمع، من خلال رعاية أبويةٍ، يظل المواطن من خلالها في حاجة للدولة، من خلال الالتحاق بالعمل في القطاع العام، خصوصاً أن هذا القطاع امتلك القدرة على استقبال الموظفين، من دون اعتبار لمهنيتهم وكفاءتهم، وخصوصاً، أيضاً، أن المجتمع انقطع عن مزاولة المهن التقليدية التي كان يتم توارثها في العائلة الواحدة.
بعبارة أخرى، كان التوظيف طريقة مهذبة، وأكثر حداثة لتوزيع الريع على أكبر قدر من المواطنين، في ما يشبه توزيع الغنائم والهبات. ولكن، من خلال جهاز إداري عقلاني ومنظّم. في حالة "البيروقراطية النفطية العربية"، تنقلب الحالة الشهيرة من أن الدولة تأخذ الضرائب من المواطن في مقابل تقديم الخدمات له، فتصبح الحالة، هنا، أن المواطن يأخذ ضرائب من الدولة مقابل إتاحة السيطرة. هذه البيروقراطية كانت "سيطرة ناعمة" فاعلة في الحالة النفطية العربية، ما يُفسّر حاجة الدول النفطية العربية إلى مقدار أقل من القوة القسرية المادية، في المجال العام.
7DCBCDF9-9B50-4782-AA8C-FEDA3F7106B7
نايف السلمي

مهندس صناعي وكاتب سعودي مهتم بالفكر و الثقافة في الوطن العربي، ومؤلف مشارك في كتاب "في معنى العروبة .. مفاهيم و تحديات".