بيروقراطية وتراخٍ إداري

07 مايو 2015

آلة تجديد جواز السفر الياباني (إنترنت)

+ الخط -

اعتراني شعور بالإعجاب، وإحساس بالدهشة والغبن في آن، وأنا أشاهد على شبكة التواصل الاجتماعي، "فيسبوك"، كيفية الحصول على جواز سفر أو تجديده في اليابان. شعرت بالانبهار، لأن الأمر في تلك الديار لا يستغرق أكثر من ثلاث دقائق، ولأن الوسائل الرقمية والتقنيات الحاسوبية عندهم خادمة المجتمع بامتياز، مساهمة في تيسير عمل المواطنين والإداريين على السواء، حتى أن استخراج جل الوثائق الإدارية يتم في وقت قياسي، عبر الاستنجاد بالإدارة الإلكترونية، التي توفر لكل مستخدميها خيارات العبور السريع إلى المواقع الحكومية وغير الحكومية، مؤمنة الاستجابة لجل المطالب في دقائق معدودة، على نحوٍ يضمن توفير الجهد والمال والطاقة، ويعزز من ثقة المواطن بهياكل الدولة وخدماتها. وشعرت بالغبن، لأن المشهد أحالني، مباشرةً، على صورة عكسية لواقع الممارسة الإدارية في معظم البلدان العربية، حيث ينتظر المواطن طويلاً للحصول على حكم محكمة، أو بطاقة، أو جواز سفر، أو للحصول على رد على مطلبٍ أودعه في الصندوق الوطني للتأمين على المرض، كما يقف الساعات الطوال في مركز البريد ليرسل حوالة، أو ليتلقى رسالة من الحجم الكبير، أو ليبرق إلى شخصٍ ما. أما إذا أردت شرح وضعية أو مقابلة شخصية إدارية أو وزارية، فقد تمضي سحابة عمرك في طلب المراد، ولا تنال المرام إلا قليلا، فكثيرا ما يتعلل أغلب الإداريين بأن المدير في جلسة، أو أنه غير موجود، أو أن الوزير في مهمة خارج الوطن، أو داخله، أو أن الأمر ليس من اختصاص الإدارة المعنية، فيتم التنصل من المسؤولية أصلاً، ويجري توجيهك إلى إدارة أخرى، وهذه بدورها تبعثك إلى سواها، أو تطلب منك المزيد من الوثائق الإدارية، فتكل وتمل وتعزف عن مواصلة مشوار البحث عن الخدمة، أو الوثيقة المنشودة.

وزيادة على الإجراءات البيروقراطية المعقدة، كثيرا ما يستقبلك في الإدارات الحكومية، خصوصاً أعوان استقبال يتكلمون بالكاد، ويتواصلون معك حيناً، ويصدونك أحياناً، ويتعللون، أحيانا أخرى، بكثرة السائلين والأقارب المبجلين، فلا تجد طريقك إليهم، فتلوذ بالصمت أو تغادر المكان في غير رجعة... وحتى مكاتب العلاقات مع المواطن التي يفترض أن تكون قريبة من الناس، هي، في الغالب، فاقدة التفاعلية، تنفّر زوارها من شدة ما يرون من عبوس وتكاسل ومماطلة. ولا تستغرب إن دخلت مؤسسة عمومية، ولم تجد العون المكلف بتأمين الخدمة، فيقال لك إنه في إجازة، أو إنه خرج للتو، وقد يعود وقد لا يعود، فتسمع عبارة "ارجع غداً أو بعد غدٍ لعل حاجتك تقضى"، أو "عليك أن تأتي مبكرا حتّى تلقاه"، ومن الطريف أنك إذا وجدت الموظف المعني فقد يقول لك "ما فيش شبكة، ما فيش نت يا أستاذ"، وعليك أن تحذر من أن تقصد بعض المؤسسات الإدارية في نصف الساعة الأخير من الحصة الصباحية أو المسائية، فأغلب الظن أنك لا تجد إلا القليل من الموظفين. هذا إذا لم تجد الأبواب موصدة أو نوافذ الخدمة مغلقة.

ومع أن إداريين كثيرين يحرصون على القيام بالواجب، فإن ظاهرة التراخي الإداري أصبحت متفشية في تونس، بعد الثورة خصوصاً. وقد جاء، مثلاً، في دراسة صدرت سنة 2014 أن 72% من التونسيين غير راضين عن جودة الخدمات الإدارية، واشتكى 72.7% من مجموع المستجوبين من طول الآجال، للحصول على وثيقة إدارية، كما عبر 67.8% عن عدم رضاهم عن كيفيات الاستقبال. وفي تقرير المنظمة الدولية للمنافسة، احتلت تونس المرتبة 67 من حيث كثرة الوثائق الإدارية وغلبة البيروقراطية على أجهزة الدولة.

ومن المفارقات أنك ترى عند مدخل كل إدارة معلقات جذابة تحمل عنوان "الإدارة في خدمة المواطن"، تخبرك بالتزام الإدارة بالرد على الرسائل الإلكترونية في ظرف 48 ساعة، والرد على كل أسئلة المواطن والاستجابة لكل طلباته في إطار القانون، والحقيقة أني جربت مرات عديدة مراسلة مؤسسات إدارية حكومية عبر البريد الإلكتروني. لكن، لا مجيب. والظاهر أن بعض مواقع تلك المؤسسات لا يتم تحيين محتواها أصلا.

وبناء عليه، الحاجة أكيدة، اليوم، لتحريك عجلة الإصلاح الإداري، وإرساء الإدارة الرقمية بديلاً عن الإدارة التقليدية، ونشر أقطاب الإدارة السريعة، ذات الخدمات المجمعة في المناطق الحضرية، والعمل على تأهيل الموظفين وتحسين أدائهم المهني والتواصلي، خدمة للمواطن، وتشجيعاً على الاستثمار، وبحثاً عن موقع ضمن ما يسمى المجتمع الشبكي الكوني.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.