في قوالب باطونية مسلّحة، يزيّنها بعض الزجاج والحديد، تُحتجز بيروت. مدينة أصبحت أقرب إلى مجموعة من الكانتونات مع طاقم أمني، يصعب على قاطنيها التحرّك داخلها للترويح عن أنفسهم، بعدما انحسرت بشكلٍ كبير الأماكن المخصّصة لهم في الحيّز العام.
ليس بالإمكان إيجاد توصيف دقيق لهويّة بيروت المعماريّة، لما تتضمنه من خليط ثقافي يحمل في طيّاتِه العديد من العناصِر التي لطالَما طرحَت نفسَها كمادة جدلية ترتسِم معالِمِها بوصفِها نيو-كولونيالية. فهي تارةً تشبه عواصم الغرب في مركزيتها وملامحها الرئيسية، مثل وسع الطرقات وأماكن التجمع ووسائل النقل الحديثة والساحات العامة، وتارةً تبدو محلية من خلال بعضِ البعثات العلمية التي حاولت في فترة الخمسينيّات من القرن المنصرم إعادة تنظِيم مساحات حضرية تشبه، ولو بشكل خجول، مجتمع المدينة.
بين هاتين المدرستين، تكوّن نموذج آخر يعتمد على دمج الحداثة مع بعض العناصر التي أُسقطت على ما سمي لاحقاً بالعمارة اللبنانية. كانت العمارة داخل بيروت، قبل وصول أساليب وتقنيات العمارات الذكية إلى حوض المتوسط، تعتمد الأقواس الثلاث التي يبلغ ارتفاعها ستة أمتار وبنسبة بناء تتعدى أحياناً المئة في المئة؛ تماماً كما فعل "هوسمان" في باريس، أي تدمير الذاكرة الجماعية بحجة إزالة الأبنية التي شوّهتها الحرب الأهلية، وبالتالي إطلاق حرب أخرى تعيد هدم إرث ثقافي كلّف إنشاؤه والاعتياد على نمطيته عشرات العقود، دون الأخذ بعين الاعتبار حاجات المدينة بعد الحرب المذكورة.
باختصار، لم تستطع المدينة، بعيداً عن المفاهيم الجمالية النسبية، تحقيق هويتها الخاصة. "نقوم بتشكيل أبنيتنا، قبل أن تعود هذه الأبنية وتشكّلنا"، مقولة تختصر ماهيّة الترابط الوثيق بين التخطيط العمراني والعمارة بوصفها عملاً فنيّاً يعكس هويتنا الثقافية ويمارس تأثيراً يوميّاً علينا كونه جزءًا من كيان المدينة ومعلماً حضاريّاً يتلاعب، من خلال قدرته على تكوين مساحات وفراغات، بكيفية قدرتنا على التحرّك وممارسة عاداتنا اليومية.
استطاعت بيروت في العقود الأخيرة، لا سيّما بعد تدفّق الرساميل أو استمرار تدفقها من دول الجوار، كفلسطين وسوريا، أن تعرّف عن نفسها بكونها أحد أهمّ مراكز شركات التدريب ومركز أساسي للمال، ما انعكس معمارياً في تخطيط جعل من بعض المعالم المعمارية الأساسية وبعض الشوارع داخل العاصِمة نقطة انطلاق لمشروع بناء منطقة مصرفية مركزية، كـ"رياض الصلح" و"شارع الحمرا". منطقة تتكوّن بشكل رئيس من مبانٍ تحمل مواصفات حديثة من حيث طريقة معالجة الواجهات وعلاقتها النسيجيّة مع محيطها، إضافةً إلى تعدّد خدماتها واستعمالاتها.
بعبارة أخرى، تم تسليع العمارة وتحويلها من عمل فنّي وظيفي يخدم مشهديّة المكان ويرتبط بثقافة المجتمع ويخدم سيكولوجية الأفراد، إلى عمارة ذات طابع ريعيّ تخدم بعض المصالح الاقتصادية الخاصة، لتتحوّل بدورها لاحِقاً إلى جزء لا يتجزّأ من اقتصاد الدولة القائم. هكذا، تصبح العمارة مصدراً لإنتاج الأرباح وتتحول الدوائر العقاريّة إلى قطاعات رئيسية لرأس المال.
من جهة أخرى، تعاني بيروت من انقسام يبدأ بمناطقها ويصل إلى أحيائها الضيقة، ويعكس مفاهيم الفئات الدينية والإثنية وعلاقتها مع الحيّز العام. هكذا، يصبح لكلّ شارع لغة ينطق بها، تشبهه وتعبّر عنه خارج القانون العام، ما أسّس بدايةً إلى عملية استغلال الفراغ العامودي الحاصل في المجتمع وضربه من خلال قيام منشآت سكنية تتكدّس على مساحات صغيرة داخل المدينة.
منشآت رمادية، لا تحمل هويّة واضحة، وتشبه إلى حدّ كبير "معرضاً فنّياً مؤقّتاً يقفل أبوابه مع بيع لوحاته"، على حدّ تعبير المعماري حبيب صادق، الذي يضيف: "أمسى همّ أصحابها الوحيد أن تباع"، ويقصد هنا العمارات التي تتكوّن منها هذه المنشآت وملأت بيروت مؤخّراً؛ عمارات "يجد الفرد نفسه في شققها داخل غُرَف زجاجيّة لائقة من حيث المشهدية العامة، لكنّها تفتقر إلى القدرة على تلبية حاجات السكن الأساسية، أي الرفاهية والاستقرار النفسي".
يبقى أنّ هناك بعض الاستثناءات التي ينبغي ذكرها، وأغلبها إما مشاريع فردية صغيرة مموَّلة من قبل القطاع الخاص، أو عمارات حديثة تحاكي المدارس المعمارية الخضراء، وأغلبها يحمل صفات الاستدامة، ويشارك في تنفيذها معماريون عرب وأجانب اكتسبوا شهرة عالمية واسعة بعد نجاحهم في تثبيت العلاقة النسيجية، أي تجانس العمارة مع محيطها ووظيفتها الاستعمالية.
* مهندس معماري من لبنان