أُلبسَ هذا المبنى حجراً لامعاً. إذا ما نظرتَ إلى الواجهة من بعيد، قد تشعرُ بفارق طبقي أو هيبة. وقبلَ أن تغادر، قد تتمنّى أن تنعم ببعضٍ منه لأيام أو ساعات، أو تلعن ساكنيه وتتّهمهم بالفساد وما إلى ذلك. كل هذا يدور في عقلك وأنت تغادر الحي إلى ذلك الموازي له. هناكَ، تظهر بيروت. مبنى عادي طاعن، ما زال يحتفظُ بقليلٍ من جمال عمارة الستينيات والسبعينيات. ينشرُ الناس الغسيل على حبالٍ تطلّ على الشارع الرئيسي. من الأسفل، لن يكون بإمكانك تحديد علاماتها التجارية. لكن قد تشعر أنها أقرب إلى نفَسِ المدينة.
حتى فيروز تختلف بين حيّ وآخر. لا يتغير صوتها ولا أغنياتها بل معناها. هذه طبقية، وهي حاضرة في بيروت من دون أن تكون حادّة. الشوارع متداخلة إلى درجة كبيرة. لا حدود بين الطبقتَين. ناسُ الطبقتَين يلتقون في أماكن عدة. يعرفون أنهم لا يتشابهون ويتابع كلّ منهم مسيره.
"الفروقات الطبقيّة في لبنان ليست حادّة"، تقول الأستاذة الجامعية المتخصّصة في الدراسات الحضرية والتخطيط منى حرب. تتحدّث أيضاً عمّا تسمّيه "الغنى الطائفي"، لافتة إلى أن التشابك بين المناطق يجعل الناس مضطرين إلى التعرّف إلى بعضهم بعضاً، بالإضافة إلى الحاجة. على سبيل المثال، عادة ما لا تُمانع أي طائفة أو طبقة اجتماعية معينة تناول الطعام في مطعم ذائع الصيت في منطقة برج حمود الشعبية التي تسكنها غالبيّة أرمنيّة.
في عدد من الأحياء الفقيرة في بيروت، تلفت حرب إلى وجود بوابات تقفل معلنة عن حدود قومية أو طائفية أو غير ذلك. إلا أن هذه الحدود ليست مغلقة تماماً، بل هي "قابلة للتفاوض"، على حدّ قولها. من لبنان، تنتقِلُ إلى مدينة بوسطن في الولايات المتحدة الأميركيّة. هناكَ، تجد أحياء لشعوب أتت إلى المكان الجديد، وخلقت حيّزها الخاص وثقافتها، على غرار الحي الصيني الذي صارت له حدود. تدخل إليه فتشعر بأنك تنتقل إلى مكان آخر. وهذا يجذب السياح الذين ينظرون إلى هذه الأحياء كمصدر غنى للبلد. في المقابل، نصنّفها هنا كفروقات، بحسب حرب.
يصعب إيجاد طريق أو جسر يفصل بين منطقتين غنية وفقيرة في بيروت. وبعكس دول أخرى، هناك خطوط تقسّم الأحياء طائفياً، تسمى خطوط التماس. هذه منطقة تملؤها تماثيل السيدة العذراء، وتلك أعلام سوداء.
يتفرّع من شارع فردان الراقي في بيروت حيّ شعبي. في الأوّل، ترى خادمات يُخرجن الكلاب للتنزّه صباحاً ومساءً. مشهد كهذا لن تجده في الحي الشعبي. هناك، ما زال الناس أكثر ارتباطاً بنبض المدينة، بحسب حرب. تضيف أن علاقة الناس مع الشارع ما زالت قوية.
لكنّه الخوف الذي خلق حدوداً كثيرة بين اللبنانيين. تقول حرب إن عدداً كبيراً من المواطنين يخشون الدخول إلى الأحياء التي تسكنها غالبية سودانية أو حبشية أو سورية أو فلسطينية وخصوصاً المخيمات، لافتة إلى أن الخوف ليس مبرراً، ويدخل في إطار التهويل السياسي - الطائفي. أحياناً، تنصحُ تلاميذها بالمرور في أحياء شعبيّة في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، على غرار حيّ السلّم، لتفادي ازدحام السير. معظمهم لا يحبّذ الأمر. حين ذهبوا إلى المنطقة مع الجامعة، تغيّرت نظرتهم. مع ذلك، تبقى علاقتنا شخصية مع الأحياء. قد لا نخافها بسبب أحدهم.
دائماً ما تتغيّر هويّة الأحياء. يحزن كثيرون لأجلها، ويعجزون عن التأقلم مع غيرها. لكنها مثلنا تتأثّر بما يحيط بها وتتغيّر. خلال السنوات الأخيرة، تجلّى ذلك من خلال لجوء عدد كبير من السوريّين إلى لبنان. الغرفة التي كان يسكنها حارس المبنى باتت تستضيف العائلة الممتدّة بأكملها. وفي عدد من الشوارع الحيوية، نسمع اللهجة السورية بكثرة. وفي الأحياء الفقيرة نفسها، صار هناك صراع بين الفقير والأكثر فقراً بسبب اللجوء السوري، الذي دفع أصحاب الشقق إلى زيادة بدلات الإيجار، الأمر الذي اضطر فقراء من جنسيات أخرى، من بينهم لبنانيون، إلى ترك أحياء عاشوا فيها سنوات طويلة.
وتبقى منطقة "سوليدير"، وسط المدينة الذي يفترض أن يكون الأكثر حيويّة، وإن فشلت في أن تكون كذلك. بالنسبة إلى حرب، هي صمّمت لتكون أشبه بمتحف، ودائماً ما يشعر المواطنون بأنهم محاصرون فيها لكثرة الممنوعات. كأنها للفرجة فقط، ما جعلها خاصة بفئة دون غيرها، كما لو نرتدي ثوباً للسهرة ونذهب إلى العمل.
يوماً بعد آخر، نفقد علاقتنا بالشارع. نراه بعيداً عنا. نخاف منه، ونخشى على أطفالنا من الاحتكاك به، هو الذي كان له الفضل في تنشئتهم يوماً. لم يكن جميع الأطفال أولاد شارع، بل على تماس معه.