يرى المؤرخ الأميركي بيتر ن. ستيرنز (1936) أن ربط تاريخ الطفولة بسياق من التاريخ العالمي بشكل مباشر يساعد على فهم الاثنين معاً، رغم أن هذا الربط ما زال غير معهود على نحو ما، لعدة أسباب من بينها الثغرات التي تسم المعرفة التاريخيّة المتاحة في هذا المجال، والقصور في إيجاد الأدلة الملموسة، إلّا أنه يجازف ويدخل هذا المضمار راصداً أهم المحطات التي مرت بها الطفولة، وكيف تطوّرت النظرة إليها عبر العصور، ليضعها في عمل بعنوان "الطفولة في التاريخ العالمي"، صدر هذا الشهر ضمن سلسلة "عالم المعرفة" بترجمة وفيق فائق كريشات.
أول التغيّرات الكبرى التي يسجّلها المؤلف وطرأت على الطفولة عبر التاريخ كانت زيادة الاهتمام بها في مجتمع الزراعة، بعد قرون من الإهمال في مجتمع الالتقاط والصيد لعدم قدرة الأطفال على المشاركة في اقتصاد العائلة، حيث برزت في مجتمع الزراعة قبل نحو 10 آلاف سنة، ولأول مرة، فكرة الجدوى قريبة المدى للأطفال.
يركّز سترينز في الفصول اللاحقة على الطفولة في القوانين الناظمة لدى الحضارات؛ والتي سادت من 1000 قبل الميلاد إلى القرنين الخامس والسادس الميلادييّن، كقوانين بلاد الرافدين في شريعة حمورابي والقانون الرومانيّ والشريعة اليهودية، على أن السمة الأساس في تلك القوانين كان تركيزها على ضرورة التفريق الطبقيّ بين الأطفال، والتعريف المتطرّف للأمومة ونسق الزواج المرتبط بها.
وبعكس تلك الحضارات شحّت المعلومات عند مجتمعات المتوسط الكلاسيكية، على أن السمة الواضحة عند هذه المجتمعات (أثينا وروما) غلب عليها معيار الوأد منحصراً في الإناث، رغم وجود ما يمنع هذه العادة في القوانين، وتبعاً لذلك صبغت هذه المجتمعات صبغة الجنوسة والتفريق بين الأطفال الذكور والإناث في التعليم والإرث.
وخلافاً للمرحلتين السابقتين، يجد الباحث ما يدعم به عمله في مرحلة انتشار الأديان الكبرى؛ الإسلام والمسيحية والبوذية، التي أدخلت أوضح مجموعة من التغييرات على مفهوم الطفولة، واشتركت هذه المعتقدات الثلاثة بالتركيز على التعليم انطلاقاً من الحاجة إلى التربية الدينية، إضافة إلى رفضها وأد المواليد، لكن هذه الأديان أدخلت على قضية الجنوسة توتّرات جديدة.
يترك بعدها المؤلف البحث عمودياً في الزمن لينتقل إلى التوسع في الجغرافيا أفقياً، متناولاً الطفولة في أفريقيا جنوب الصحراء وروسيا واليابان، مع بروز ما أطلق عليه "الشعور بالخطيئة والموت" لدى الأطفال الناتج عن التربية الدينية.
يعرض المؤلف مفهوم الطفولة الحديثة التي يقول إنها انتشرت في أوروبا الغربية وأميركا، وأثرها على مناطق أخرى، مسجلاً صعوبة في تتبع التغيّرات كون هذا النموذج ما يزال يتحرّك. ورغم أنه يرصد إيجابيات جديدة وكثيرة إلا أنه يعود ويصفها بأنها تحمل سلبيات أيضاً.
ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر، نشأ اهتمام بتوسيع المنظومات التعليمية لدى الأطفال، وعاد تقييم الطفولة في المجتمع اقتصادياً من خلال فكرة أن الأكثر تعليماً أكثر نفعاً للاقتصاد والمواطنة.
يوثّق المؤرخ تعامل الشيوعية مع الطفولة، حيث أفردت دول الكتلة الشرقية اهتماماً بالأطفال، وتقاطعت فيه مع الغرب مع اختلاف حاد في الدوافع، خصوصاً على مستوى التعليم، حيث جرى السعي إلى إيجاد منظومة تخدم الإيديولوجيا، بينما اتجهت العناية في المجتمعات الغنية إلى قوننة جهود مواجهة المشاكل التي صارت تطفو على السطح كالرق والاستغلال الجنسيّ.
أخيراً، حمل القرن العشرون طباعاً جديدة للطفولة بسبب انتشار الحروب والمجازر، الأمر الذي دفع إلى إعادة النظر في مفاهيم أخرى مثل الأبوّة، مع ظهور تصوّرات جديدة للإنجاب أو صعود الخوف من رعاية الأطفال.