بيار سولاج: اللوحة إذ تستقبل تفسيراتنا لها وتنهار

29 ديسمبر 2019
(من المعرض)
+ الخط -

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بنحو عام، وُلد بيار سولاج بالقرب من مدينة أفيرون الفرنسية التي عاشت تداعيات تلك الحرب لسنوات تلت، ومع أنه استطاع الإفلات من الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، إلّا أن السواد غطّى معظم أعماله!

لم تغادر السخرية روح الفنان الفرنسي (1919) خلافاً لتلك الصرامة الحادّة التي كانت تحكم ريشته منجذباً لتلك الأشكال الهندسية والأقواس والخطوط المستقيمة، ومستفيداً من فنّ الزخرفة الزجاجية في وضع أسلوبه الخاص منذ خمسينيات القرن الماضي.

متجاوزاً المئة عام، قضى سبعين منها مع الفن، افتتح سولاج معرضه في الحادي عشر من الشهر الجاري في "متحف اللوفر" في باريس، والذي يتواصل حتى التاسع من آذار/ مارس المقبل، وهو يغطّي جميع مراحل مشواره الذي هيمن الرسم على معظمها.

اختار التجريد الكامل منذ تخرّجه من "كلية الفنون الجميلة" في مونبلييه، وكتب عام 1948 أن "اللوحة هي مجموعة منظّمة، وهي مجموعة من الأشكال (الخطوط، الأسطح الملوّنة) التي تظهر عليها تفسيراتنا لها وتنهار"، واستناداً إلى تصوّره هذا، بدأ تجريبه في استخدام مواد عديدة منها القطران وصباغ الجوز على قطع من الزجاج المكسور.

لجأ سولاج أيضاً إلى مسحوق أوكسيد الحديد للوصول إلى ألوان ساطعة كالأحمر واللازوردي لتُجاور السواد وتصبح أكثر بروزاً، كما استخدم أدوات يستعملها عمّال الدهان، وتقنيات الكشط والمحو والحفر وتراكم اللون ثم إعادة الكرّة مجدداً، ضمن بحثه المتواصل الذي لم يدرك إلى أين سيقوده.

في المدرسة، كانت الخطوط السوداء تغطّي دفاتره بكثافة وقتامة، مردّداً: "إنني لا أرى إلا اللون الأسود"، لكنه كان يقول بين الطرافة والجد إنه يرسم بلون الثلج، من دون أن يعلم أنه يشتغل على انعكاس الأسود حتى يبرز في أقصى درجة تضادّه، ليبدو كأنه أبيض كما اتضح في تجارب لاحقة.

مع نهاية السبعينيات، بدأ مرحلة جديدة انعكس فيها الضوء على مركز اللوحة وسمّاها "ما بعد الأسود"، والتي قام فيها بصبغ لوحته بالأسود وتركه حتى غطّاها كاملة ثم بدأ تدريجياً يختفي وجوده على سطحها، وهو التغيّر الذي يجعل اللوحة كأنها في استمرارية دائمة، والتي عكف على دراستها في العديد من الأعمال.

احتفى سولاج طوال أكثر من سبعة عقود بذلك التناقض بين الأبيض والأسود، الظلمة والنور؛ إنها "لعب بالضوء"، الوصف الذي يتطابق مع تجريبه الذي لم يخطّط له من قبل، إنما انبثق داخل اللوحة وهي تُرسم، وداخل التفاعل بين الرسم وإنجازه في مسار الخلق والعلاقة بالأشكال والأبعاد والأحجام والألوان.

تحتوي أعماله على طبقات متراكمة من اللون وأنسجة ليفية ومتعرجة تمتص الضوء أو تطرده، لتولّد مساحات رمادية سوداء ضمن خطوط بتلافيف متنوّعة، وفي كلّ مرة ينظر إليها المتلقي يجد أنها تأخذه إلى داخلها وليس إلى خارجها، حيث الأسود يختزل الكون كلّه في جوهره.

المساهمون