أشياء كثيرة تربط بُونْوا هامون (من مواليد 1967)، وهو من أصول عمالية، بأنداده (رئيس الوزراء مانويل فالس، ووزير التعليم الأسبق، فنسن بييون، ووزير الصناعة الأسبق، آرنو مونتبورغ)، الذين تعلموا التحليق معاً، تحت كنف رئيس الحكومة الأسبق، ليونيل جوسبان.
ويتقاسم هامون، الذي ظفر بالجولة الأولى من الانتخابات التمهيدية في الحزب الاشتراكي الفرنسي، مع مانويل فالس، أباً روحيّاً واحداً هو ميشيل روكار، منافس ميتران، ومُطلق "اليسار الثاني"، والذي دفع بهامون "رئيساً لحركة الشباب الاشتراكيين"، حين كان روكار رئيساً للحزب الاشتراكي.
وحين فشل مشروع ميشيل روكار، أدرك هامون، بذكاء السياسيّ، كيف يلتحق بالجناح اليساري في الحزب، وعرف كيف يتسلل إلى "الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا"، النقابة الطلابية التي تتموقع على يسار الحزب، والتي لُوحِظ دورُها الرئيس، إلى جانب مركزيات نقابية عمالية، في مقاومة قانون "الشغل الحكومي"، المثير للجدل، وظل لصيقاً بها ومقرباً من قادتها.
يتمتع هامون بحس سياسيّ مرهف، ولهذا أدرك أثناء صراع سيغولين رويال ومارتين أوبري، على رئاسة الحزب الاشتراكي، كيف ينحاز لهذه الأخيرة. ولهذا لا يستغرب كيف أن السيدة أوبري ساندت هامون، ولو بشكل غير مباشر، في حين أن هَوى رويال يميل لإيمانويل ماكرون.
وقد أظهر هامون، طيلة ولاية هولاند الرئاسية، وفاءً للخطاب السياسي اليساري، الذي عبّرت عنه حملة هولاند الانتخابية، وهو سرّ تواجده في الحكومة، لسنتَيْن، مع رموز اليسار (مونتبورغ وتوبيرا)، ثم خروجه منها حين رأى "خيانة" الحكومة مبادئها ووعودها، على يد رئيس الحكومة فالس، وما استتبعه من رفض صريح للقرارات الحكومية، في البرلمان وفي الشارع وفي الإعلام. وهو ما كان إعلاناً عن قطيعة نهائية مع "يسار الحُكْم".
لم ينتظر هامون قرار هولاند عدم ترشحه ثانية، حتى يعلن عن ترشحه لانتخابات اليسار الفرعية، ففي 16 أغسطس/ آب 2016. استبق العديد من المرشحين، ومن بينهم مونتبورغ، مقترحاً نفسه "بديلا" للحكومة... ومن حينها لم يتوقف "مرشح اليسار الكليّ"، كما يقدم نفسه، عن مفاجأة خصومه؛ كل خصومه، بمقترحات لا تخلو من أصالة وخيال، ولا تتوقف عن نيل استحسان ورضى أعداد متزايدة من شعب اليسار ومن عامة الفرنسيين.
لعلّ منها إلغاء قانون العمل، الذي فرضته الحكومة الاشتراكية، بعنف قانوني، وفرض "راتب عام" بقيمة 750 يورو في الشهر حدّاً أدنى، لمن يشتغل ولا يشتغل، وهو مقترح فريدٌ يستهجنه كلّ خصومه السياسيين، من اليسار واليمين، إضافة إلى تخفيض ساعات العمل، بسبب الثورة الرقمية، وهو ما يستلزم تقاسماً عادلاً. كما أنه يشاطر مونتبورغ وميلينشون فكرة الانتهاء من الجمهورية الخامسة المترهلة، ومن طابعها الملكي والتسلطي.
يتفرد هامون بمقترح إرساء قانون (493) مدني، الذي يمنح للمواطنين حق المشاركة في الحياة السياسية، ولا يغفل القضايا الإنسانية والحقوقية، فيقترح منح تأشيرات إنسانية للاجئين، وبالتالي إظهار إنسانية أكبر مما جرى في فرنسا لحدّ الآن، أثناء تدفق المهاجرين واللاجئين على أوروبا، أخيراً.
وفي لفتة إلى الشباب، يطالب بتشريع بيع القنب الهندي (الذي اعترف كثيرون من الفرنسيين أنهم دخّنوه في حياتهم، مرة واحدة على الأقل، ومن بينهم رئيس الحكومة الفرنسي السابق وعضو المجلس الدستوري، ليونيل جوسبان)، وهو ما سيسمح للدولة بالتحكم في بيعه وتجفيف منابع العنف، والإرهاب والاقتصاد الموازي.
كل هذه المقترحات هي جزءٌ من برنامج هامون السياسي، يطعّمها بمواقف مبدئية، منذ سنوات طويلة. لعلّ من بينها موقفه اللافت بضرورة الاعتراف الرسمي الفرنسي بالدولة الفلسطينية المستقلة؛ وقد تميّز هامون بهذا الموقف أثناء نقاشات البرلمان ومجلس الشيوخ الفرنسيين، التي انتهت بتصويتهما غير المُلزم للحكومة بالدولة الفلسطينية، وهو موقف فريد ومبدئي إذا ما قُورن بمواقف ساسة يساريين آخرين، كانوا يحتمون خلف وَهْم "تشجيع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على الحوار وعدم إغضاب إسرائيل"، للتهرب من موقف صريح وواضح.
كان هامون قلقاً، في ظلّ تواجُد مرشّح آخر ليسار الحزب الاشتراكي معه، أرنو مونتبورغ، من أن يَحدث كسرٌ كبير غير قابل للجبر، بين مكونات يسار الحزب، ولكنّ انضمام مونتبورغ، الفوري إليه والعاطفي، بعد خسارته في انتخابات الدورة الأولى، جعل الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، في نظر هامون.
يستطيع هامون الآن، الاعتماد على ماري نويل ليينمان، إحدى أقطاب يسار الحزب. وتستطيع كريستيان توبيرا، "ضمير اليسار" كما يطلق عليها، والتي كانت متجاذَبة بين هامون ومونتبورغ، أن تقدّم دعمها الصريح والثمين لهامون، وهو نفس موقف مارتين أوبري، وأيضاً عمدة باريس الإسبانية، آن هيدالغو التي لا تُكنّ ودّاً للإسباني الآخَر، مانويل فالس.
عرف هامون كيف يغازل الإيكولوجيين في برنامجه، الطامح للبحث عن الطاقة المتجددة والتخلص من النووي، وليس سرّاً أن كثيراً من الإيكولوجيين، ومن بينهم الرئيسة السابقة، سيسيل دوفلو للحزب، والتي أقصيت في الدور الأول من انتخابات حزبها الداخلية، صوّتوا عليه في الدورة الأولى، وسيفعلون، ثانية، رغم وجود مرشح رئاسي إيكولوجي، لا يعول عليه كثيرون.
لا يلتفت هامون للخلف، فقليل فقط راهنوا على فوزه في الدورة الأولى، أو على الأقل على انفراده في المقدمة، وهو ما سيتيح له أن يخوض الدورة الثانية، بمُعيقات أقلّ من منافسه مانويل فالس. ويتناسى كثيرون أنه واحدٌ من الرباعي الذي كان واعداً في حكومة جوسبان:(مونتبورغ، فالس بيون وهامون)، وإذا كان أقلهم خطابية ومنبرية، فقد تعلَّم بسرعة أثناء هذه الحملة الانتخابية القصيرة، لأن "الشهية تأتي أثناء الأكل"، كما يقول الفرنسيون.
وإذا كان هامون قد حرص في الدورة الأولى، أن يكون مؤدباً، خاصة تجاه فالس، فهو الآن، في حِلٍّ من الأمر، بعد أن بدأ مانويل فالس، القَلق من هزيمته، باستخدام كل أسلحته، ومنها الاستهانة بالخصم والسخرية من جدية برنامجه.
كل شيء جائز في الحرب، كما تقول العرب... و"الحرب لسّه في أول السكة".