"يعتقد الناس أن كرة القدم مجرد فوز أو هزيمة، بينما يعرف المتابعون والعاشقون لها أنها لعبة حياة أو موت. بالنسبة لي، الأمر أكبر من ذلك أيضاً، إنها كل شيء ممكن من البداية حتى النهاية" يقول بيل شانكلي، صانع أمجاد ليفربول، هذه المقولة في حب اللعبة الشعبية الأولى في العالم. إنها كرة القدم وسرها الممتع الذي أسر الجميع، الغني قبل الفقير، والكبير مع الصغير، لذلك تُعرف مدرّجات المباريات بأنها المكان الحقيقي الذي تتساوى فيه كل طوائف العالم من دون تمييز.
في ألمانيا، ينتهي عمال المناجم في جيلسنكيرش من أشغالهم الشاقة ويذهبون إلى الملعب لتشجيع فريقهم المفضّل، شالكه. وفي مدينة دورتموند، إلى جوار المنطقة الخاصة بالكادحين، يقف ثلاثون ألف مشجع من جماهير بروسيا دورتموند طوال المباراة لبثّ الحماس في نفوس لاعبيهم. انتبه من فضلك، أنت في حضرة ديربي الرور، حيث لا مفرّ من الجنون.
تحدى الأوكرانيون بطش الروس وسياسات الاتحاد السوفييتي القاسية بفريقهم الشهير، دينامو كييف، الذي وصل إلى العالمية بقيادة مديره الفني الأشهر، فاليرو لوبانوفيسكي، عرّاب الكرة القائمة على الإحصائيات في أوروبا والعالم. عُرف الاتحاد السوفييتي بموسكو عاصمة السياسة، وكييف عاصمة كرة القدم، لينقسم، في ما بعد، وتبقى أمجاد دينامو حاضرة مهما مرت السنوات.
يوما السبت والأحد من كل أسبوع، هما العيد الرسمي للشعب البريطاني، يذهب الكل إلى الملعب من أجل مشاهدة فريقه المفضّل. يشتهر الماضي الاسكتلندي بالسير ويليام والاس، والحاضر بالسير أليكس فيرجسون. الديربي في مدينة جلاسكو ليس مجرد لقاء عادي، بل تتدخل النزعة الدينية في الأمور. تشجع الطائفة البروتستانتية نادي رينجرز، النادي الأقرب للقصر الملكي في باكينجهام، بينما تنتمي الطائفة الكاثوليكية إلى السيلتيك، الفريق المقرّب من الأيريش، هكذا عرفنا كرة القدم، فيها حياة أخرى.
قبل أن تموت
في رائعة المخرج العالمي سبايك لي، قدم الممثل الأميركي إدوارد نورتون دوراً ملحمياً لا يُنسى، عن طريق بطولة فيلم "الساعة 25"، الذي يتحدث عن تاجر المخدرات الذي حُكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات، وتتبقى له فقط 24 ساعة يقضيها خارج أسوار المجهول، فيذهب إلى أصدقائه القدامى ورفاق الطفولة، ويُقرر أن ينسى معهم مصيره المؤلم ويعيش لحظات كأنه خالد إلى الأبد، ليتمنى أن يعود به الزمن إلى الوراء، وألا يفعل ما اقترفه ويقوم بأشياء أخرى.
أما في كرة القدم، فهناك قواعد الحضور الخمسين، أي مجموعة أحداث رياضية يجب أن تشاهدها عن قرب وتتعرّف إليها قبل أن تموت، لأنها لحظات خاصة جداً وأحداث لا تتكرر كثيراً. ومن بين كل أنواع الرياضات، اختار معظم المهتمين حدثاً واحداً يأتي في المقدمة، وأجمع عليه كل الذين جرت مفاجأتهم بهذا السؤال الغريب، ماذا تُفضّل أن تشاهد قبل أن تنتقل إلى العالم الآخر؟ لتكون الإجابة الرئيسية: الذهاب إلى الأرجنتين، والتوغل في شوارع بيونس آيرس، والاستمتاع بكافة التناقضات داخل المدينة اللاتينية، بين أنصار اليمين ومريدي اليسار، محبي موسيقى الروك، أو الميل إلى الأغاني اللاتينية البحتة.
هل أنت من أنصار المدرب مينوتي أم بيلاردو؟ بكل تأكيد هناك اتفاق رئيسي على أن مارادونا أعظم من بيليه، وأن ديربي بوكا جونيور وريفر بلات هو الأشهر والأعظم والأمتع على الإطلاق.
صراع غير تقليدي
يعتبر ديربي بيونس آيرس بمثابة اللقاء الذي لا يقبل القسمة مطلقاً على اثنين، إنها المباراة الأكثر اشتعالاً في أميركا الجنوبية، بل في العالم أجمع. ويعود الصراع إلى قديم الأزل، لأن الناديين هما الأكثر شعبية والأعرق تاريخاً في الأرجنتين، ولهما نصيب الأسد من الجماهير في العاصمة.
ثمة أمور جعلت الديربي متوهجاً على مدى مشوار الفريقين، لذلك حينما تُلعب هذه المباراة، تقف الأرجنتين على قدم واحدة من أجل متابعة أقوى تسعين دقيقة في الموسم الكروي. يتحدّر نادي البوكا من أعماق الأحياء الفقيرة في الأرجنتين، لذلك ينتمي معظم جمهوره إلى الطبقة العاملة الكادحة في البلاد، بينما انتقل الريفر إلى مقاطعة قريبة لكنها أرقى، لذلك أصبح معظم أنصاره من الطبقة الغنية ومن الأشخاص ميسوري الحال، بحكم طبيعة البيئة التي يعيشون فيها.
لذلك، مع التنافس الكروي، هناك تضاد اقتصادي واجتماعي بين القطبين: النزعة اليسارية الخاصة بعشاق البوكا، والطابع الأرستقراطي الذي يمتاز به عملاق الريفر. وبكل تأكيد، لكل قاعدة استثناء، وأثناء سيرك في دهاليز وخبايا المدينة، ستجد جماهير مختلفة وعشاقاً للفريقين في كل مكان.
يفترش جمهور البوكا العديد من المقاهي الشعبية، فيما يحتلّ أنصار الريفر المطاعم والحانات في مراكز بيونس آيرس الرئيسية. وداخل الأسواق التجارية، تنظر إلى اليمين لتجد متجراً مزيّناً بالأزرق والأصفر، ألوان بوكا جونيور، بينما على الناحية الأخرى، تظهر الألوان الفاتحة التي تُعّبر عن شخصية نجوم الريفر بلات.
شعارات جماهيرية
"انظر إلى اليسارية، إنها قادمة من المونيمنتال، إنها قادمة من البونبونيرا"، تعليق شهير لأحد معلقينا العرب على هدف ما للنجم الأرجنتيني الكبير، ليونيل ميسي، يوضح الكثير من أسرار كرة القدم الأرجنتينية، التي خرجت إلى الضوء وغزت العالم عن طريق ملاعب وساحات كرة القدم.
يمتاز المونيمنتال بالحجم الكبير، والمدرجات الواسعة، والأرضية الرائعة، وهو الملعب الخاص بفريق ريفر بلات، ومعقله الرئيسي الذي شهد انتصاراته المدوّية. وتظهر لافتة شهيرة في مقدمة المستطيل الأخضر تقول: "نحن نتنفّس ريفر، نشرب ريفر، نأكل ريفر. الريفر بلات هو حياتنا الجميلة".
بينما على الجهة الأخرى من المشهد، يوجد الملعب الذي يمتاز بمساحته الضيقة جداً، ومقاعده البسيطة التي يُجاور بعضها بعضاً في شكل أقرب إلى الصناديق الصغيرة، مع اقتراب الجمهور بشدة من أرضية الملعب، ووجود الأسلاك العالية لمنع المجاذيب من النزول، لتوقن في نهاية المطاف، أنك داخل علبة الشوكولاتة، موطن البوكا جونيور، بالعبارة الشهيرة التي تُشعل الأجواء: "حينما أموت، أحرقوا جثتي وانثروا رمادها في بونبونيرا".
لا تبكي من أجلي
لكلّ فريق قاعدته الجماهيرية العريضة، ونجومه الكبار أيضاً. لذلك خرجت معظم الأسماء الخالدة في سماء اللعبة اللاتينية من الفريقين. دييجو أرماندو مارادونا، في بوكا جونيور، الملك المتوّج وأسطورة اللعبة على مرّ التاريخ، ما زالت صورته بقميص البوكا وبالقبعة الشهيرة، تؤكد أن دييجو له صولات وجولات داخل ملاعب القارة العجوز، لكنه لا ينسى أبداً حبه القديم، السماوي المتلوّن بالنار، فريق الفقراء، عمالقة الجونيور. ومع مارادونا، هناك نجوم آخرون اشتهروا مع الفريق نفسه، آخرهم صانع الألعاب الكلاسيكي البديع، خوان رومان ريكلمي، أحد أرقى مَن ارتدوا الرقم 10 في تاريخ راقصي التانجو.
أما ريفر بلات، فله أيضاً نجومه الكبار، ومدرسته التي أنجبت أجيالاً كروية ناجحة ومعروفة.
يجلس الجمهور الإيطالي، حتى يومنا هذا، لكي يحكي عن لدغات العقرب الأرجنتيني، هيرنان كريسبو، الذي ينتمي إلى الريفر، رفقة خافيير ماسكيرانو، وأورتيجا، وأيمار، ومجموعة النجوم الأجانب بقيادة النمر الكولومبي راداميل فالكاو، والغزال الشيلي أليكسيس سانشيز، ليؤكدوا جميعاً أن مدرسة ريفر بلات الكروية هي الأكثر إنجاباً بين كل فرق الأرجنتين.
وتحدّث اللاعب الأرجنتيني، جونزالو هيجواين، مهاجم نادي نابولي وريال مدريد الإسباني سابقاً، إلى صحيفة أرجنتينية عن دربي الأرجنتين بين بوكا جونيور وريفر بلات، فقال "إنه عاطفي أكثر من الكلاسيكو الإسباني". وتابع حديثه لصحيفة "لبوندير": "الكلاسيكو الإسباني يعتبر الأهم في العالم، والجميع يتفق على ذلك، ولكن ديربي الأرجنتين عاطفي أكثر".
ورغم الخلاف والصراع والكراهية، إلا أن كل هذه المشاعر العدوانية تتحوّل إلى طاقات إيجابية، حينما يجتمع الكل تحت لواء واحد وهدف مؤكد، تشجيع منتخب الأرجنتين، والوقوف بقلب رجل واحد داخل أي ملعب كروي، مع النشيد الوطني والهتافات التي توقظ الروح المعنوية عند لاعبي الفريق الوطني. البوكا والريفر لا يلتقيان إلا في طريق واحد فقط، آخره كلمات من القلب: أرجنتينا، لا تبكي من أجلي يا معشوقتي.
ويلتقي الفريقان فجر الإثنين ضمن منافسات الأسبوع ال11 على ملعب "البومبونيرا"، ويتاسوى الفريقان في النقاط برصيد 24 نقطة.