بوتين الناخب الأميركي الأكبر

21 سبتمبر 2016

هيلاري وزيرة للخارجية في ضيافة بوتين (8 سبتمبر/2012/فرانس برس)

+ الخط -
للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سمات شخصية عديدة، يحرص بنفسه على تظهيرها وإبرازها، منها إحاطة نفسه بهالةٍ من الغموض، مصدرها عمله السابق في المخابرات السوفياتية (KGB)، واستعداداه لاستخدام أقصى درجات العنف، لتحقيق أغراضه السياسية، وغير ذلك من صفاتٍ تجعله أقرب إلى زعماء "الكارتيلات الكولومبية" منه إلى رئيس دولة. لكن الرئيس بوتين كشف، في الفترة الأخيرة، عن امتلاكه صفة جديدة، أنه لا ينسى ثأره.
يرى بوتين أن إدارة الرئيس باراك أوباما تعاملت معه باستخفافٍ بالغ، لدى وصولها إلى السلطة. ففي ربيع العام 2009، أوفد أوباما وزيرة خارجيته في ذلك الوقت، هيلاري كلينتون، إلى موسكو للقاء الرئيس ميدفيدف ووزير الخارجية سيرغي لافروف، وكانت كلينتون مكلفةً بمهمةٍ واضحة ومحدّدة: إصلاح العلاقات التي تدهورت بشدة مع روسيا في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الابن، خصوصاً بعد أن غزت موسكو جورجيا في أغسطس/ آب 2008، وفصل مقاطعتي أبخازيا وأوسيتا الجنوبية عنها، بهدف الحصول على دعم روسي لتسهيل سحب القوات الأميركية من أفغانستان.
وكان الرئيس أوباما أطلق، في حملته الانتخابية، وعوداً بإنهاء حربي العراق وأفغانستان، لكنه في العراق كان يحتاج إلى تعاون إيران للتهدئة، وعدم التشويش على سحب القوات. وفي أفغانستان، كان يحتاج إلى دعم روسيا، لأن خطوط الإمداد والانسحاب عبر باكستان لم تعد آمنةً، نتيجة استهدافها بصورة متزايدة من "طالبان". وافقت موسكو على فتح أجوائها أمام الأميركيين للعبور من أفغانستان وإليه. وكنايةً عن تحسن العلاقات، أطلقت كلينتون ولافروف، في مشهد دعائي لافت، زراً كهربائياً صنع خصيصاً للتعبير عن رغبةٍ مشتركةٍ في بداية جديدة (Reset Policy).
لم يمض وقت طويل، حتى تبين لبوتين الذي كان يشغل، في ذلك الوقت، منصب رئيس الوزراء، ويستعد للعودة إلى الكرملين رئيساً، أن إدارة أوباما لم تكن مهتمةً الا بانفراجة مؤقتة في العلاقات، لا بل كانت تعمل على الحيلولة دون عودته إلى الرئاسة، مع تفضيلها الاستمرار في التعامل مع مدفيديف.
في خريف عام 2011، أطلق بوتين حملته الانتخابية للعودة إلى الرئاسة بنسبةٍ معتبرةٍ من الأصوات، لكن المعارضة الداخلية لطموحاته في ولاية رئاسية جديدة كانت تتصاعد بدعم أميركي واضح. في ذلك الوقت، كان العالم العربي يعيش عز أيام الربيع العربي، وكان بوتين متوجساً من امتداده إليه، خصوصاً أن ظروف روسيا في عهده لم تكن مختلفةً كثيراً عن ظروف الثورات العربية (فساد – استبداد...إلخ). وكان بوتين عاين، عن كثب، الثورات الملونة التي ضربت بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة (الثورة المخملية في جورجيا 2003، الثورة البرتقالية في أوكرانيا 2004، وثورة السوسن في قرغيزيا 2005)، وكان يخشى من حصول ثورةٍ مماثلة في روسيا، خصوصاً مع تصاعد حركة الاحتجاجات في الشارع.
تغلب الرئيس بوتين على هذا التحدّي، وعاد إلى الرئاسة في 2012. ومنذ ذلك الوقت، وأكثر همه منصرفٌ إلى الانتقام من الأميركيين، حتى لو ضحى بالسوريين وكل العرب على مذبح صراعه معهم. لكن بوتين اكتشف أنه، في ظل إدارةٍ ضعيفةٍ ومهزوزةٍ، مثل إدارة أوباما. وفي ظل الانقسام السياسي والمجتمعي الشديد الذي تعيشه أميركا، والجنون الذي جعل من شخصٍ، مثل دونالد ترامب، مرشحاً رئاسياً، فإنه ليس بمقدوره فقط أن يمنح اللجوء السياسي لعميل المخابرات الأميركية المنشق إدوارد سنودن فقط، بل يمكن أن يذهب باتجاه التدخل في الانتخابات الأميركية، وحتى في تقرير اسم الرئيس الأميركي القادم.
لأسابيع عديدة، وروسيا تحاول، من خلال معلومات حصلت عليها عبر التجسّس على مؤتمر الحزب الديموقراطي أخيراً، والبريد الإلكتروني للمرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون، التأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. في تقريرٍ نشرته مجلة فورين بوليسي أخيراً، بدا الرئيس بوتين مقتنعاً أن كلينتون، في حال وصلت إلى الحكم، سوف تتشدّد كثيراً في التعامل مع روسيا، إلى حد الاستعداد للدخول في مواجهةٍ عسكرية معها. وهذه مخاوف مبالغ فيها كثيراً، لكن من الواضح أن بوتين لم ينسَ أن من أطلق خدعة إعادة الاطلاق (Reset) عام 2009 لم يكن سوى كلينتون نفسها.