16 نوفمبر 2024
بوتين استراتيجي على من؟
بحركته أخيراً، يعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن المهمّة الأوكرانية أنجزت، وصارت من التاريخ، ولم يبق منها سوى النموذج الذي يُراد نقله إلى الساحة التي تم افتتاحها في الشرق الأوسط. نموذج جاهز لا يحتاج سوى إلى التركيب، مع بعض التجهيزات اللوجستية، الأدوات نفسها التي جرى استخدامها في أوكرانيا "الفرقة البحرية 810"، والتبريرات الدبلوماسية نفسها، واستحضار المناخ السياسي الذي حصلت فيه الأزمة الأوكرانية. وللمفارقة، الطائرات القادمة من القرم إلى سورية أكثر من القادمة من موسكو.
الملاحظ أنّ بوتين يرسخ نمطاً للنفوذ الروسي، يقوم على اقتطاع حيوزات ذات أهمية استراتيجية، من فضاءات الدول التي يستهدفها، وهي، في الغالب، ذات موقع استراتيجي قارّي وحاكم، بحيث يضمن حصوله على المزايا الاستراتيجية، ويدع للطرف الآخر الغرق في السلبيات، وهو ما يميزه عن أسلافه الذين تورّطوا في فضاءات واسعة، كان من نتيجتها السماح لأعدائهم باصطيادهم بسهولة واستنزافهم.
تتضح معالم تطبيقات نظرية بوتين الجغروسياسية السورية مع هبوط كل طائرة محمّلة بأنماط معينة مع السلاح، وتعكسها لمعات المعاول التي بدأت تقطيع الجغرافية السورية، وحفر حاجز يفصل الأقليات الحليفة للنفوذ الروسي عن الأعداء البرابرة ما وراء الحاجز، وتفصل الساحل بموانئه الدافئة، وغازه الموعود عن الصحارى العربية وفوضاها وعطشها.
في الغالب، تكشف الخبرة التاريخية أن استراتيجيات بوتين لا تلحظ بنداً اسمه التكاليف، أو هو،
في الغالب، يحمّلها على فواتير الآخرين، فحساباته دائماً على ربح صافٍ، لأنه يتبع استراتيجية اللعبة الصفرية، والتي تعتبر أنّ خسارة الطرف الآخر نقطة تعني ربحه لها، ما يعني أن ما يخسره من أرصدة احتياطية، على الصعد الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، يعوضه بفائض نقاط ربح ألعابه الصفرية، وهذه يعاود تدويرها من جديد، لتشكّل محركات مغامراته الجديدة.
لا ينفي ذلك حقيقة أن الرجل صياد ماهر، يعاين بدقة وتمعن مسرح حركة فريسته والظروف المحيطة، ويحدد نوعية الذخيرة التي سيستخدمها، وعدد الخطوات التي تفصله عنها، ولحظة انقضاضه على الفريسة، وشكل ذلك الانقضاض، ويتعمد إرباك البيئة المحيطة به، بحيث يجعلها في حيرة من أمرها: هل صوّب على الطائر أم على الأرنب؟ وهل استخدم سهماً أم طلقة؟ وهل ينوي شواء فريسته أم تحنيطها، هل يريد ضرب داعش أم إنقاذ الأسد من إيران؟ وهل هدفه منع سورية من التقسيم، أم تقاسمها مع إيران؟ هل يريد تعويم الأسد أم جلبه إلى المفاوضات، بعد أن يكون قد جهّز المناخ المناسب، لتشكيل بديل من النظام والمعارضة؟
في وسط بحر من الأسئلة والتكهنات، يتخبط العالم عشية اكتمال بناء المنصة التي يجهزها بوتين، للتحكم برقبة الشرق الأوسط وليس سورية، وفيما تهبط العقلانية على العالم، ويحاول إدراج تصرفات بوتين عنوة ضمن أقفاصها، لا يبدو أن رجل المخابرات السابق يفضل هذا النمط من التفكير، بل يفضل عليه طريقة مد اللسان والاستهزاء، حتى إنه لا يطيق قواعد التفكير الاستراتيجي، وقوالبه اللغوية الجامدة، ولا وقت لديه للانشغال بمثل هذه الترهات التي لا تنتج سوى الحذر والجبن. وحتى حين يضطر، بروتوكولياً، إلى الاستعانة بواضعي التقديرات، من رجال استخباراته، فإنه يفهمهم أن التقدير يجب أن يكون مطابقاً مقاسات رؤاه وتصوراته هو، ويجب ألا يوجه إليه بعد إنجازه، بل لقادة الرأي العام والإعلام دليلاً للترويج.
عملياً، لا يحتاج بوتين إلى اجتراح أفكار خلّاقة للعمل في هذه البيئة الدولية. بالعكس من ذلك، الأفكار والفرص ملقاة على قارعة الطريق، لا يتطلب الأمر أكثر من توليفات بسيطة لها، وشحنها بقليل من جرأة ومكر وخداع، لتتحوّل إلى استراتيجيات ناجحة، في لحظة دولية تبدو فيها القوة الفاعلة لا تملك الثقة بتصرفاتها، ويشل الحذر فعاليتها، وتعجز عن إنجاز مهمة بدأتها
هي بنفسها، من العراق إلى سورية إلى أماكن كثيرة. وفي وقت يستهزئ أشخاص متواضعون في الفكر والممارسة القيادية، أمثال كيم إيل سونغ وبشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، من ذاكرة العالم الذي يبدي استعداده الدائم للبدء معهم من جديد، لولا رفضهم هم أنفسهم هذا التسامح الذي يشترطون قبوله بتنصيبهم أبطالاً أنقذوا البشرية!
يتسلل بوتين دروبه إلى تحقيق أهدافه من خريطة إخفاق العالم، ومن الكوارث التي ساهم بيديه في صناعة جزءٍ منها، ينطلق من أزمة اللاجئين، ليزاود على أوروبا بأن تقسيمه سورية واحتلاله الساحل السوري سيساهم في وضع حد لها، وهو الذي دافع عن صانع هذه المأساة، بكل أدواته الدبلوماسية والعسكرية، وأتاح له الفرص والمساحات، ليكمل نسج شبكة الخراب في سورية. ويقفز بوتين إلى قمرة الطائرة التي ستضرب طلقة صوب معاقل داعش التي ساهم في هندستها، مع الثلاثي خامنئي ونوري المالكي والأسد، وصاروخاً على فلاحي إدلب وحماة، لإنجاز مهمة التطهير العرقي، وتزخيم عملية اللجوء، لكي يضمن استمرار غرق أوروبا في هذه الأزمة، ويحصل على إقرار أميركي بأن الحرب على داعش طويلة، وأن الغنيمة بالابتعاد عن سورية.
إذا كانت جملة هذه الممارسات المافياوية يصح تسميتها استراتيجيا، فإنها تليق بهذا العالم أكثر من اعتبارها اجتراحاً تحسب لرجلٍ، لم يبدد فرصة لتدمير مستقبل روسيا، وإغراقها في حقول الشوك التي ستدمي الأجيال الروسية حتى أمد طويل.
الملاحظ أنّ بوتين يرسخ نمطاً للنفوذ الروسي، يقوم على اقتطاع حيوزات ذات أهمية استراتيجية، من فضاءات الدول التي يستهدفها، وهي، في الغالب، ذات موقع استراتيجي قارّي وحاكم، بحيث يضمن حصوله على المزايا الاستراتيجية، ويدع للطرف الآخر الغرق في السلبيات، وهو ما يميزه عن أسلافه الذين تورّطوا في فضاءات واسعة، كان من نتيجتها السماح لأعدائهم باصطيادهم بسهولة واستنزافهم.
تتضح معالم تطبيقات نظرية بوتين الجغروسياسية السورية مع هبوط كل طائرة محمّلة بأنماط معينة مع السلاح، وتعكسها لمعات المعاول التي بدأت تقطيع الجغرافية السورية، وحفر حاجز يفصل الأقليات الحليفة للنفوذ الروسي عن الأعداء البرابرة ما وراء الحاجز، وتفصل الساحل بموانئه الدافئة، وغازه الموعود عن الصحارى العربية وفوضاها وعطشها.
في الغالب، تكشف الخبرة التاريخية أن استراتيجيات بوتين لا تلحظ بنداً اسمه التكاليف، أو هو،
لا ينفي ذلك حقيقة أن الرجل صياد ماهر، يعاين بدقة وتمعن مسرح حركة فريسته والظروف المحيطة، ويحدد نوعية الذخيرة التي سيستخدمها، وعدد الخطوات التي تفصله عنها، ولحظة انقضاضه على الفريسة، وشكل ذلك الانقضاض، ويتعمد إرباك البيئة المحيطة به، بحيث يجعلها في حيرة من أمرها: هل صوّب على الطائر أم على الأرنب؟ وهل استخدم سهماً أم طلقة؟ وهل ينوي شواء فريسته أم تحنيطها، هل يريد ضرب داعش أم إنقاذ الأسد من إيران؟ وهل هدفه منع سورية من التقسيم، أم تقاسمها مع إيران؟ هل يريد تعويم الأسد أم جلبه إلى المفاوضات، بعد أن يكون قد جهّز المناخ المناسب، لتشكيل بديل من النظام والمعارضة؟
في وسط بحر من الأسئلة والتكهنات، يتخبط العالم عشية اكتمال بناء المنصة التي يجهزها بوتين، للتحكم برقبة الشرق الأوسط وليس سورية، وفيما تهبط العقلانية على العالم، ويحاول إدراج تصرفات بوتين عنوة ضمن أقفاصها، لا يبدو أن رجل المخابرات السابق يفضل هذا النمط من التفكير، بل يفضل عليه طريقة مد اللسان والاستهزاء، حتى إنه لا يطيق قواعد التفكير الاستراتيجي، وقوالبه اللغوية الجامدة، ولا وقت لديه للانشغال بمثل هذه الترهات التي لا تنتج سوى الحذر والجبن. وحتى حين يضطر، بروتوكولياً، إلى الاستعانة بواضعي التقديرات، من رجال استخباراته، فإنه يفهمهم أن التقدير يجب أن يكون مطابقاً مقاسات رؤاه وتصوراته هو، ويجب ألا يوجه إليه بعد إنجازه، بل لقادة الرأي العام والإعلام دليلاً للترويج.
عملياً، لا يحتاج بوتين إلى اجتراح أفكار خلّاقة للعمل في هذه البيئة الدولية. بالعكس من ذلك، الأفكار والفرص ملقاة على قارعة الطريق، لا يتطلب الأمر أكثر من توليفات بسيطة لها، وشحنها بقليل من جرأة ومكر وخداع، لتتحوّل إلى استراتيجيات ناجحة، في لحظة دولية تبدو فيها القوة الفاعلة لا تملك الثقة بتصرفاتها، ويشل الحذر فعاليتها، وتعجز عن إنجاز مهمة بدأتها
يتسلل بوتين دروبه إلى تحقيق أهدافه من خريطة إخفاق العالم، ومن الكوارث التي ساهم بيديه في صناعة جزءٍ منها، ينطلق من أزمة اللاجئين، ليزاود على أوروبا بأن تقسيمه سورية واحتلاله الساحل السوري سيساهم في وضع حد لها، وهو الذي دافع عن صانع هذه المأساة، بكل أدواته الدبلوماسية والعسكرية، وأتاح له الفرص والمساحات، ليكمل نسج شبكة الخراب في سورية. ويقفز بوتين إلى قمرة الطائرة التي ستضرب طلقة صوب معاقل داعش التي ساهم في هندستها، مع الثلاثي خامنئي ونوري المالكي والأسد، وصاروخاً على فلاحي إدلب وحماة، لإنجاز مهمة التطهير العرقي، وتزخيم عملية اللجوء، لكي يضمن استمرار غرق أوروبا في هذه الأزمة، ويحصل على إقرار أميركي بأن الحرب على داعش طويلة، وأن الغنيمة بالابتعاد عن سورية.
إذا كانت جملة هذه الممارسات المافياوية يصح تسميتها استراتيجيا، فإنها تليق بهذا العالم أكثر من اعتبارها اجتراحاً تحسب لرجلٍ، لم يبدد فرصة لتدمير مستقبل روسيا، وإغراقها في حقول الشوك التي ستدمي الأجيال الروسية حتى أمد طويل.