بوتين إذ يلاعب واشنطن

14 أكتوبر 2016
+ الخط -
"روسيا قوة إقليمية، تهدّد بعضاً من جيرانها المباشرين، ليس من منطلق القوة، وإنما من منطلق الضعف". الجملة السابقة أطلقها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في مارس/ آذار 2014، أي بعد أقل من شهر على غزو روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية وضمها إليها. كان سياق الجملة استهزائيا بروسيا، القوة الإقليمية لا العالمية، كما أكد أوباما، وبرئيسها، فلاديمير بوتين، الطامح باستعادة أمجاد روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي الآفلين. وخلال أسابيع قليلة، كانت الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين يفرضون عقوباتٍ اقتصاديةً قاسيةً على روسيا، أنهكتها واستنزفت خزينتها واستثماراتها.
لكن استهزاء أوباما بروسيا لم يدم ولم يُكْتَبْ له أن يهنأ به طويلاً، فروسيا مضت في توسعها في شرق أوكرانيا عبر دعم مليشيات الانفصاليين، ولم يلبث جفن حلفاء أميركا من الأوروبيين أن رمش نوعاً ما، فمصالحهم الاقتصادية والجيوستراتيجية مع روسيا أكبر من أن يرهنوها لضعف دولة كأوكرانيا، أو حتى للولايات المتحدة التي ترزح تحت قيادةٍ، يرى فيها حلفاء كثيرون، أنها انكفائية، ولا يُعَوَلُ عليها. أبعد من ذلك، لم ينس بوتين يوماً لأوباما إهانته، عبر الغمز من قناةٍ، أن روسيا قوة إقليمية لا دولية، فكان أن أرسل طائراته الحربية إلى سورية في سبتمبر/ أيلول 2015 لدعم نظام بشار الأسد، ومارس الأمر بطريقةٍ فيها كثير إذلال للولايات المتحدة، إذ زار جنرال عسكري روسي السفارة الأميركية في بغداد، قبل ساعاتٍ من بدء القصف الروسي، لينذر الأميركيين، بسحب طائراتهم من الأجواء السورية، لإفساح المجال أمام الطائرات الروسية. ومرة أخرى، لم تكد تمضي أيام ثلاثة على بدء القصف الروسي، حتى خرج أوباما على العالم ليدين الغارات الجوية على المعارضة المدعوم بعضها من واشنطن، وليحذّر روسيا أنها تنجرّ إلى "مستنقع" في سورية، ثمَّ ما لبثت إدارة أوباما أن بدأت تتوسّل من روسيا التعاون لإنهاء الصراع السوري، بعد أن ثبت أن روسيا تربح، والولايات المتحدة تخسر.
إذن، أثبتت روسيا بوتين لأميركا أوباما أن "قوةً إقليميةً" بحجم روسيا، إذا ما قورنت بالقوة الأميركية، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، قادرة على تلقين أميركا، بقيادةٍ متردّدةٍ كإدارة أوباما، دروساً في فن لعب الشطرنج على رقعةٍ من الدماء. إدارة أوباما، يمكنها أن تجادل، كما جادل رئيسها غير مرة، أن أوكرانيا وسورية ليستا مصلحتين حيويتين أميركيتين أساسيتين مرتبطتين بالأمن القومي الأميركي وأمن حلفائها (طبعا مع التحفظ على هذا التقويم). وبالتالي، لا يتطلب ذلك تدخلاً عسكرياً أميركياً مباشراً لصالح المعارضة السورية، يوازن التدخل الروسي لصالح الأسد. المشكلة هنا، وهذا هو الأخطر، أن العبث الروسي مع الولايات المتحدة لم يتوقف هناك، بل إن بوتين، استناداً إلى الاتهامات الرسمية الأميركية اليوم وصل به الغرور والشطط إلى أن يحاول العبث بالانتخابات الرئاسية الأميركية نفسها. فحسب البيت الأبيض والأجهزة الاستخباراتية الأميركية، من يقف وراء قرصنة بريد الحزب الديمقراطي ورئيس حملة مرشحة الحزب الرئاسية، هيلاري كلينتون، وتسريبها إلى "ويكيليكس"، هي موسكو نفسها. بل إن واشنطن تتهم موسكو بقرصنة الأنظمة الانتخابية في ولاية أميركية واحدة على الأقل، هي فلوريدا. وحسب اتهامات حملة كلينتون، الهدف الأساس من تسريبات "ويكيليكس"، بإسناد روسي، ضرب فرص نجاحها في الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل، وتعزيز فرص المرشّح الجمهوري، دونالد ترامب، الذي كشفت تسريباتٌ أميركية، لا روسية، مسجلةٌ بالصوت والصورة مستوى البذاءة الجنسية والأخلاقية التي يجسّدها.
بغض النظر عمّا إذا كانت روسيا هي فعلا من يقف وراء تلك القرصنة وتسريبات
"ويكيليكس"، وبغض النظر عمّا إذا كان بعض مقربي ترامب كانوا على علم مسبق بها، كما يقول بعض مساعدي كلينتون، فالمؤكد أن ترامب لم يخف يوماً إعجابه بشخصية بوتين، بل وتعهده بالعمل معه. وربما يجدر التذكير، هنا، بأن ترامب كان دعا، من قبل، روسيا إلى اختراق بريد كلينتون الإلكتروني، وكشف أكثر من 30 ألف رسالة يُقالُ إنها حذفتها، حتى تخفيها عن أعين المحققين الفدراليين الذين كانوا يحققون في استخدامها خادم إنترنت خاص وبريداً إلكترونياً شخصياً لا حكومياً، خلال ترؤسها وزارة الخارجية الأميركية. بل لم يتردّد ترامب في القول إن بوتين أفضل من أوباما، لأن الأول زعيم قوي، في حين أن الثاني زعيم ضعيف. أيضا، فإن ترامب أعلنها بوضوح بأنه سيعمل مع روسيا وإيران ونظام الأسد في محاربة "داعش"، موحياً بتماهيه مع موقف ذلك الثلاثي من أن الثورة السورية هي من صور "الحرب على الإرهاب".
المحصلة، أن بوتين، زعيم "القوة الإقليمية" المعزولة دولياً، الذي يتحرّك من منطلق "الضعف" لا "القوة"، والذي الأصل أن قدمي دولته تغرقان في أوحال "المستنقع" السوري، هو من يلاعب واشنطن "القوة العظمى" في عالم اليوم، ويعبث بمصالحها الخارجية، واستقرارها الداخلي، من دون أن يخشى ردة فعل قيادة أميركية متردّدة وعاجزة. تتمدّد روسيا اليوم، حتى في ساحاتٍ كانت تعد أميركيةً إلى الأمس القريب، كما في تركيا وشبه الجزيرة العربية، وتهدّد العملية السياسية الأميركية بشكلٍ قد يزعزع استقرار الدولة الأعظم، في ظل انتخاباتٍ شديدة الاستقطاب. ومع ذلك، لا زال أوباما يحدّثنا عن القوة الأميركية العظمى التي لا يقدر أحدٌ على مضاهاتها، ولا يمكن للعالم أن يستغني عنها! صحيح أن الولايات المتحدة هي الأقوى والأعظم، لكن الصحيح أيضا، كما نُسِبَ القول إلى العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، يوماً، إن من يقودها اليوم رئيسٌ لا يؤمن بهذه القوة، ولا بهذه العظمة. ولعلها المفارقة المُرَّةُ أن يُذَكِّرَ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الأربعاء الماضي، أوباما بزعمه إن روسيا دولة إقليمية، عند إجابته على سؤال لمحطة "سي إن إن" عن اتهام إدارة أوباما بلاده بالقرصنة الإلكترونية ضد الحزب الديمقراطي. رد لافروف على الاتهامات الأميركية مستهزئا: "إنه إطراء أن تحصل قوة إقليمية، كما وصفنا الرئيس أوباما قبل فترة، بهذا المستوى من الاهتمام".
هكذا انتهى الحال بأميركا تحت قيادة أوباما، لكن الاستهزاء الروسي ليس مضحكاً، بل هو مسطّر بالدماء. هذا لا يعني أن السياسة الأميركية الخارجية أرحم من نظيرتها الروسية، فالولايات المتحدة إن تدخلت سَفَكَتِ الدماء، كما تحت إدارة جورج بوش الابن، وإن أحجمت عن التدخل، سُفِكَتِ الدماء، كما تحت قيادة أوباما. كل ما نريده من أميركا أن تترك المنطقة وشأنها، وأن ترفع الفيتو عن أصدقاء الشعب السوري في دعمه، لكن هذا، في الغالب، لن يحصل تحت قيادة هذا الرئيس، بانتظار رئيس آخر يؤمن بقوة أميركا وعظمتها، ويكون لديه بعض إنسانيةٍ، إن كان سيأتي أبداً.