بن علي وسوسيولوجيا الخوف

14 يونيو 2016

تونسيون لا يزالون يستبطنون بن علي في أعماقهم

+ الخط -
اختارت قناة التاسعة (التونسية) الخاصة أن يكون بطل الكاميرا الخفية لهذه السنة زين العابدين بن علي، الرئيس السابق الذي أجبرته الثورة على مغادرة البلاد، واللجوء إلى المملكة العربية السعودية. وتتمثل فكرة البرنامج في استضافة وجوه متفاوتةٍ في الأهمية، للتحاور معها حول قضيةٍ ما. لكن، بعد انطلاق البرنامج، يتم إعلام الضيف أو الضيفة بأن القناة نجحت في أن تحصل على حوار خاص مع بن علي. وهنا، تبدأ عملية رصد ردود فعل الضيوف الذين يذهب بهم الظن بأنهم يتحدّثون مباشرة مع حاكم تونس السابق.
ثار جدل، ولا يزال، بشأن تقييم هذا البرنامج، إذ هناك من انتقد القناة بشدة، بحجة أن الفكرة لا تعدو أن تكون عملية تطبيع مكشوفة مع بن علي، حتى أن بعضهم فكّر في المطالبة بإيقاف بث بقية الحلقات، واعتبر محام معروف أن بن علي "أكبر مستفيد" من هذا البرنامج، إذ من خلاله "دخل كل منازل التونسيين في شهر رمضان، وأن القائمين عليه نجحوا في تبييض صورته". في المقابل، هناك من اعتبر البرنامج "لعبة بريئة"، تورّط فيها عديدون ممن عرفوا بخطاباتهم الثورية العالية.
لا أنوي التوقف عند هذه المسألة التي تندرج ضمن الأبواب المفتوحة لحرية الإعلام. وإنما الأهم تحليل سلوك بعضهم لشرح الأسباب التي جعلت عديدين يُصابون بالرجفة، وينسون أن الدكتاتور رحل قبل خمس سنوات ونصف، وأنه مهما بلغت الأوضاع سوءاً في تونس، فإن التاريخ لن يعود إلى الخلف.
يترك كل مستبد في شعبه بصماتٍ ما حتى بعد رحيله. فالاستبداد يصنع ميكانزماتٍ عديدة تملك من القدرة في التأثير، ما يجعلها تستمر في عملها، على الرغم من انهيار أجزاء مهمة من النظام السابق، وعلى الرغم من تغير قواعد اللعبة. فبن علي يعتبر حالياً جثة سياسية، ومع ذلك، هناك من لا يزال يستبطنه في أعماقه، ويخشى منه، حتى ولو كان شخصه بعيداً عنه آلاف الكيلومترات. وعندما كان يحكم، كان سياسيون ورجال أعمال يهمسون عند الحديث عنه، أو تصيبهم رعشة عند التطرّق له خلال جلسة في مقهى من مقاهي باريس أو واشنطن أو حتى طوكيو.
أظهرت الكاميرا بوضوح، وهي آلة صادقة لا تكذب، تفضح أصحابها، حتى لو حاولوا المراوغة. أظهرت حالة الخوف التي تجلت في ملامح أكثر من شخص تمت استضافته، فتبيّن أن مجرد سماع صوت بن علي كان كافياً ليحدث رجّةً لدى بعضهم، أو يجعلهم أكثر حذراً و"انضباطاً" في تعليقاتهم، خلافاً لخطاباتٍ سابقةٍ أطلقوها على الشخص نفسه، وعلى المرحلة التاريخية التي كان يحكمها. فعندما سمع بعضهم صوت المستبدّ، حضرت بين يديه ملفاته القديمة، وأنه أمام جنرال كان مطلعاً على ما تحمله كل نملة.
لا نريد التشكيك في الأشخاص، أو اتهامهم بالانتهازية، كما سارع إلى ذلك كثيرون، أو التشكيك في القناة وفي نيات أصحابها، فهذه مسائل ثانوية، تعكس أزمة الثقة بين مختلف مكونات النخبة التونسية.
الجوهري في ما حصل أن صعوبات المرحلة الحالية التي تمر بها تونس، بعد خمس سنوات ونصف من ثورتها، هي المسؤولة، بدرجةٍ أساسيةٍ، عن هذا الحنين الذي تعاظمت نسبته في الفترة الأخيرة تجاه شخص بن علي، فذاكرة الشعوب قد تكون أحياناً قصيرة. وأحياناً، تكون مستعدة للعفو عن جلادها السابق، من دون محاسبة أو مقابل. هناك استعداد فطري للنسيان وطي صفحة الماضي، وربما تصديق ما يؤكده الدكتاتور وحاشيته، بأنه كان مظلوماً أو كان ضحية مؤامراتٍ، أو عندما ينفي أنه أساء إدارة السلطة، أو أطلق يده وأيدي من معه للعبث بالمُلك العام.
لا شك في أن عموم التونسيين، اليوم، قد تهيأوا لقبول مبدأ المصالحة. لكن، هل سيكون ذلك كافياً في غياب المحاسبة، للحيلولة دون إعادة إنتاج سيناريوهات مراحل البؤس السابقة؟
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس