منذ مقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 في قنصلية بلاده بإسطنبول، على يد "فرقة موت" سعودية أرسلت بأمر من أعلى هرم النظام في المملكة، بحسب تأكيد الاستخبارات الأميركية، قلّما يُتداول اسم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان دولياً، أكان سياسياً أم إعلامياً، بغير ملف حقوق الإنسان، وحملة القمع ضد معارضيه والنشطاء الحقوقيين، في الداخل. هذه الحملة يواصل بن سلمان، الحاكم الفعلي في الرياض، شنّها تحضيراً لاستلام العرش من والده الملك سلمان، مسكوناً بهاجس الانقلاب عليه، والذي أجّج موجة اعتقالات بات الاستشهاد بها سمة المنابر التي تتحدث عن سلوكيات الأنظمة الاستبدادية في العالم، في أقصى درجاتها، على الرغم من تاريخ المملكة في ملاحقة المنشقين والمعارضين. هذه الحملة ظلّت أيضاً محمية من قبل واشنطن، مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، في ظلّ صفقة تبادل مصالح بين الرياض وواشنطن، وصلت مرات عدة إلى حدّ الابتزاز الأميركي المفضوح. وتعود العلاقة بين الطرفين، أي بين ترامب وبن سلمان، اليوم، إلى الواجهة، وفي سباق مع الوقت، مع قضية تتتابع فصولاً لمسؤول الاستخبارات السعودي السابق سعد الجبري، بعد رفع الأخير قبل أيام دعوى قضائية في واشنطن، يتهم فيها بن سلمان بمحاولة قتله في كندا، مقر إقامته منذ 2017، بعد أسبوعين فقط من تصفية خاشقجي. وتأتي الدعوى في لحظة فارقة بالنسبة إلى كلّ من الرياض وواشنطن، بعد وقت قصير من أزمة ارتفاع أسعار النفط، وفضائح "تجسسية للنظام السعودي"، فضلاً عن ملاحقة وإخفاء سعوديين، منهم من يحمل الجنسية الأميركية. ويواجه البلدان في هذا الوقت، تداعيات كارثية لأزمة كورونا، فيما يحاول ترامب إنقاذ حملة انتخابية متعثرة لولاية ثانية، علماً أن بن سلمان نفسه لا يزال يعاني من النظرة السلبية إليه، وهو لم يزر أي عاصمة غربية ذات ثقل في زيارة رسمية ثنائية منذ قتل خاشقجي. وتأتي الدعوى كذلك في ظلّ أحاديث تتداول في الغرف المغلقة حول صحة الملك سلمان، وتحضير ولي عهده لتسلم العرش، فيما لا يزال معارضوه من أمراء أو حقوقيين، بحكم الملاحقين والمسجونين.
لائحة الأسرار والمعلومات التي لا تزال بحوزة الجبري، قد تكون أكثر ما أشعر ولا يزال بن سلمان بالقلق
ويصبح ولي العهد السعودي بحكم المطلوب، بعد 21 يوماً من استدعائه، وهو ما حصل يوم الجمعة الماضي، وتبلغه الدعوى التي رفعها ضده وضد أعضاء آخرين من فريقه سعد الجبري، الذي وصفه الإعلام الغربي يوماً بـ"الصندوق الأسود" للنظام السعودي، لا سيما حين كان الأمير محمد بن نايف ولياً للعهد، ولم يرد المدعو عليه (وعليهم) على الدعوى، بحسب نصّ الاستدعاء من المحكمة الاتحادية الأميركية في واشنطن العاصمة. ورفع المسؤول السابق في الداخلية السعودية، سعد الجبري، الدعوى على بن سلمان وأعضاء آخرين من فريقه، بينهم مستشاره السابق سعود القحطاني، وفرقة قتل باسم "فرقة النمر" (مرتزقة خاصون أرسلوا لكندا)، في قضية تتعلق بنية "تعذيبه واغتياله"، متهماً إياه بـ"تدبير مؤامرة مستمرة منذ سنوات من قبل الحكومة السعودية، بهدف تعذيبه واغتياله على الأراضي الأميركية".
وكان الجبري قد بنى سمعة ممتازة مع الاستخبارات البريطانية والأميركية خصوصاً، في وقت من الأكيد فيه أنه يملك شبكة علاقات جيدة جداً مع دوائر القرار في واشنطن، وخصوصاً في الكونغرس، لجهة التعاون الذي اتسمت به علاقات ربّ عمله السابق، بن نايف، مع تلك الجهات في إطار مكافحة الإرهاب. أما بالنسبة إلى لائحة الأسرار والمعلومات التي لا تزال بحوزته، فقد تكون أكثر ما أشعر ولا يزال بن سلمان بالقلق. ولم تهدأ محاولات ولي العهد السعودي بعد لإعادة الجبري إلى المملكة، عبر التواصل معه مباشرة، بالإغراء، أو محاولة ليّ ذراعه، أو الضغط عليه عبر استمرار حجز فردين من عائلته، ناهيك عن الاتهامات التي وجهها الجبري لبن سلمان بمحاولة تصفيته جسدياً، أو الضغط على الحكومة الكندية لاسترداده. وبحسب ما عرف عن الدعوى، فإن الجبري يطالب بتعويضات غير محددة، جرّاء محاولة بن سلمان قتله "خارج نطاق القانون". وتقع الدعوى، التي تقودها شركة محاماة "جينير اند بلوك"، في خانة الدعاوى المدنية، وفق قانون حماية ضحايا التعذيب، مع الإشارة إلى أن ولدين للجبري، من أصل ثمانية، هما عمر وسارة، تمّ احتجازهما في المملكة للضغط عليه. وتطعن الدعوى القضائية بأن استهداف الجبري يعود لعلاقاته الوثيقة بمجتمع الاستخبارات الأميركية، ومعرفته بتحركات بن سلمان الداخلية، وإمكانية أن يقوض ذلك الدعم الذي يحظى به بن سلمان داخل البيت الأبيض.
تواجه إدارة ترامب معضلة توفير الغطاء لولي العهد السعودي مجدداً، وكيفية استغلالها سياسياً، وهو ما دأبت على فعله منذ وصولها للسلطة
وتواجه الدعوى، بالمنظور القضائي، عراقيل عدة، لكنها أيضاً تحمل أبعاداً سياسية ضاغطة على بن سلمان، الذي عليه أن يرد عليها بتأكيد استلامها، في مهلة 21 يوماً، من تاريخ تسلمها. كما تواجه إدارة ترامب معضلة توفير الغطاء له مجدداً، وكيفية استغلالها سياسياً، وهو ما دأبت على فعله منذ وصولها للسلطة. وقد تكون هذه الحصانة الأميركية لولي العهد السعودي المتهور، آخر ما قد توفره إدارة ترامب له، إذا ما لم يفز الأخير بولاية ثانية، أو ما قد لا توفره، ما يعني إمكانية حرمانه من زيارة قريبة للولايات المتحدة، علماً أن هناك ضغطاً ديمقراطياً لحماية الجبري. وتوقع بروس فين، وهو نائب مساعد سابق لوزير العدل الأميركي، في حديث للتلفزيون العربي، أن تستغرق إجراءات المحكمة وألا يحسم فيها شيء قبل نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وحينها فإن جو بايدن سيرفض منح الحصانة لبن سلمان، في حال فاز في الانتخابات الرئاسية. أما في حديثه لقناة الجزيرة، فقال فين إن بن سلمان سوف "يكثف اتصالاته بالرئيس ترامب ووزير الخارجية مايك بومبيو، للحصول على ما يسمى رسالة اقتراح بالحصانة (لأنه ليس ملكاً)، والحصول على طلب حكومي أميركي من المحكمة بإهمال القضية لإضرارها بالمصالح بين البلدين". وأضاف أنه "بإمكانه ضمان أن الانتخابات الرئاسية الأميركية ستكون مهمة جداً لبن سلمان، وهو من المؤكد أنه بدأ بالتشاور مع ترامب وبومبيو".
وتواجه دعوى الجبري، من جهتها، مجموعة عقبات، منها أن قانون "آليين تورت ستاتوت"، الذي ارتكزت عليه القضية، يصعب مقاضاة أجانب، إلا إذا رأى الكونغرس غير ذلك. و"آليين تورت ستاتوت" (آي تي أس)، إلى جانب قانون حماية ضحايا التعذيب، هو أحد فصول مجموعة قوانين الولايات المتحدة (يو أس كود) التي تمنح المحاكم الفيدرالية اختصاصاتها بالدعاوى المرفوعة من مواطنين أجانب بقضايا تعذيب ارتكبت بانتهاك للقانون الدولي، ويطبق في حال حصول الانتهاك داخل الأراضي الأميركية، أو أن يكون الجرم مهماً بالنسبة للولايات المتحدة. لكن في حالة الجبري، فإن هناك الكثير من الارتباطات الملموسة بالولايات المتحدة، منها أنه يملك عقارات فيها، كما تعرض فيها للمراقبة وللضغوط، كما حاول المدعى عليهم، ومنهم بدر العساكر وأحمد العسيري، استجواب أفراد من عائلته المقيمين في بوسطن وتجميد أرصدة لهم هناك.