بنديتو كروتشه.. إقرار فلسفي بسلطة التاريخ

11 أكتوبر 2016
(بنديتو كروتشه مع بناته ألدا وليديا وسيلفيا، تصوير: بيتمان)
+ الخط -
يرتبط اسم الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه (1866-1952) في الثقافة العربية حصراً بفلسفة الفن والجمال، إذ من جملة أعماله الغزيرة تمّ ترجمة عملين فقط: "المجمل في فلسفة الفن" و"فلسفة الجمال". والحال أن اهتمام كروتشه بالإستطيقا (فلسفة الجمال) كان نافلاً إذا ما قِيس باشتغاله الفلسفي على التاريخ. يمكن القول إن الاهتمام الأدبي البحت بمنجز كروتشه إنما يعبّر في جوهره عن نمط متكرر في الثقافة العربية تنحصر فيه دراسة الفلسفات الغربية المعاصرة وروادها في جانبها الأدبي فقط، كما حصل مع الوجودية.

من وعي بهذا النقص، قامت أستاذة الفلسفة في "جامعة الجزائر" خديجة زتيلي، بإصدار دراسة بعنوان "بنديتو كروتشه والنزعة التاريخية المطلقة.. من الوعي بأهمية التاريخ إلى الإقرار بسلطته"، الصادر حديثاً في طبعة جديدة، عن "منشورات الاختلاف" و"ضفاف".

ظلّ كروتشه المنظّر لفلسفة التاريخ، وحتى كروتشه/ المؤرخ، غائباً بالرغم من مركزية قضية التراث والتاريخ في الفكر العربي المعاصر، باستثناء العروي الذي أفرد نقداً له وآخرين في معرض اهتمامه بالنزعة التاريخية أو "التاريخانية" كما يسمّيها، بوصفها موقفاً "يعتبر أن الماضي كله حاضر، قابلٌ للتمثّل والاستحضار، إنه مادة المعرفة ووسيلة للعمل والإنجاز". بل كان من الممكن أن يصبح كروتشه، خصوصاً إذا تذكّرنا نضاله ضد الفاشية، أن يكون ملهماً لتشكّل وعي معرفي وإنساني يقاوم الأنظمة القمعية التي تواترت في الوطن العربي، لو تمّت الإحاطة بجوانب أخرى من فكره.

هذا ما أشارت إليه الباحثة ضمناً حين أعربت في مقدمتها عن نيتها "إعادة استثمار كروتشه وإعادة اكتشافه من جديد، اكتشافاً يعتمد أساساً على نصوصه الأصلية"، وذلك انطلاقاً من مساءلة "موقع التاريخ فلسفياً".

في الفصل الأول تحاول الباحثة وضع الفيلسوف ضمن السياقات التي أدّت إلى تشكيل "الأصول الفكرية لكروتشه"، بوصفه "الفيلسوف المثالي هو الأكثر شهرة وتفرداً في النصف الأول من القرن العشرين" معلّلة ذلك "باتصاله الوثيق بحقول معرفية متنوعة". وبعد أن تعرض جانباً من سيرته الذاتية، توضّح الباحثة أن كروتشه تأثّر، خصوصاً فيما يتعلّق بنظرته للتاريخ، بالمضلّع: جون باتيستا فيكو وهيغل وماركس.

قام كروتشه بالتخلّص من التعالي في فلسفة التاريخ الذي ميّز فلسفة كل من فيكو وهيغل، واستبعاد "القول بالعناية الإلهية في التاريخ" إذ إنها لا تتناسب "وطبيعة التاريخ الذي ينشد الحرية في الفعل الإنساني".

إلا أن كروتشه لم يشذ عن التقليد الأوروبي في الفلسفة الذي خضع زمناً طويلاً للمؤثرات الهيغلية، "شأنه شأن كل مثقفي إيطاليا ومفكّريها في مطلع القرن العشرين"، وهي سمة لا تختصّ بها الفلسفة الإيطالية وحدها بل لم تستطع جميع الفلسفات المعاصرة منها فكاكاً لدرجة جعلت كروتشه يصفها "باستحالة العيش مع هيغل ومن دونه".

ثم جاء تأثّره بماركس وماديته التاريخية، بالرغم من اعترافه بقصورها ومثاليّتها، ليعضد بها كروتشه مركزية التاريخ في صناعة المعرفة، وهي الفكرة التي ظلّت راسخة لديه وأفضت في أواخر حياته إلى "النزعة التاريخية المطلقة" موضوع هذه الدراسة.

تنتقل صاحبة كتاب "أفلاطون، السياسة، المرأة" في الفصل التالي لتقصّي "النزعة التاريخية ودلالاتها"، التي تسعى إلى جعل التاريخ عنصراً أساسياً "في تعليل الظواهر الإنسانية والاجتماعية". وتحتفظ الباحثة بمصطلح النزعة التاريخية Historicisme، عوضاً عن تعبير "التاريخانية" الذي شاع خصوصاً في مؤلّفات عبد الله العروي، ثم تنتقل إلى كروتشه الذي "يؤكد على أن الحياة والواقع هو تاريخ ولا شيء غير ذلك"، معارضاً بذلك النموذج العقلاني الذي بشّر به عصر التنوير والذي قسّم "الحقيقة إلى تاريخية وما فوق تاريخية". محتفظاً لنفسه (كروتشه) بمسافة عن النزعة التاريخية الألمانية وذلك باستبعاده للتعالي والمفارقة وتأكيده على المحايثة وطبيعة التاريخ الإنسانية. ثم تستعرض الباحثة "أشهر النزعات التاريخية"، بدءاً من ألمانيا موطن النقد التاريخي في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى ماينكه في القرن العشرين الذي كان ذا تأثير لافت على كروتشه بالرغم "من تزامن النزعتين التاريخيتين".

تعرج الباحثة في الفصل الثالث على الإرث الهيغلي في فلسفة التاريخ وطريقة تعامل كروتشه معه. إذ يُصنّف هيغل مناهج كتابة التاريخ إلى ثلاثة: التاريخ الأصلي والتاريخ النظري والتاريخ الفلسفي، ويرى أن التاريخ يتطوّر بشكل جدلي، وتشير هنا الباحثة إلى أن كروتشه، متأثّراً بفيكو، يعارض هذه النظرة وينتقد في كتابه "ما هو حيّ وميت في فلسفة هيغل" التطوّر الجدلي للتاريخ الذي "يفترض أن التاريخ يسير وفق خطى، في حين أنه يتقدّم على شكل دورات"، منتقداً في الوقت نفسه الطابع التجريدي للتاريخ كما يراه هيغل وتحويله إلى "قوالب عقلية ومنطقية تجرّد التاريخ من حقيقته".

هكذا نرى بوضوح أن "نزعة كروتشه تتأسّس في قسم كبير منها على نقيض الأطروحات الهيغلية"، وهو ما كان موضوع الفصل الرابع، "فلسفة الروح عند كروتشه" أين يعيد الفيلسوف الإيطالي، على ضوء هذه الفلسفة نحت اصطلاحات جديدة للمعرفة الحدسية أو التعبيرية، مثلاً، ونظيرتها المعرفة العقلية وهي تعريفات ستُشكّل لاحقاً أركان فلسفته الجمالية والفنية التي اشتهر بها.

أمّا في فصل "الفلسفة بوصفها نزعة تاريخية مطلقة"، حاولت الباحثة تتبع الصياغة النهائية "للنزعة التاريخية المطلقة"، التي حاول من خلالها كروتشه التأكيد على أن "التاريخ مماثل للفلسفة لا مفارق لها أو مجرد شكل من أشكال الكرونولوجيا"، إن الفلسفة في طروحاته لا تعلو على التاريخ بل هي "لحظة منهجية في التاريخ".

في الفصل الأخير تتعرّض الباحثة لتشكل كروتشه/ المؤرخ على ضوء هذه النزعة التاريخية المطلقة أو الجانب التطبيقي منها، مستقصيةً حدودها المنهجية ومدى التزام كروتشه بالضوابط التي أسّستها نزعته التاريخية، والتي أفضت إلى نقد كارل بوبر لهذه النزعة متهما إياها "بأنها منهج لا قيمة له ولا طائل منه".

هذه الدراسة محاولة لـ "إحياء جديد للثقافة الإيطالية"، بالرغم من القرب النسبي إلى القارئ العربي من الفلسفة القاريّة أو الأوروبية، قياساً بالتحليلية أو الأنغلو أميركية، إلا أن هناك تراتبية حتى في هذا القرب، فالفلسفة الألمانية والفرنسية ظلّت أقرب للثقافة العربية من نظيرتها الإيطالية بالرغم من "الأداء الجيد لأصحابها وأصالة بحوثهم ومواكبتهم".

المساهمون