بنات عائلات فاشيّات

17 يونيو 2015

موسوليني وهتلر في ميونخ في 1937 (Getty)

+ الخط -
3- "قويّ يمتطي جواداً، منتصبٌ أَنوف، له وجهٌ شهم منحوتٌ، وعينان مشرقتان واسعتان بنظرة آمرة، وجبين نيِّر عريض كجبين النابغة، إنه الدوتشي". لا شيء سوى الافتتان بالقتل والقمع هو الذي يجعل شابة تكتب قصيدة غزلية كهذه، وترسلها إلى موسوليني، الذي لو رأته بجوارها في الأوتوبيس، لاعتبرت إطالته النظر إليها وقاحةً لا تليق بعجوز متصابٍ، وربما لو كان موسوليني سياسياً حصيفاً وقوراً، لكان جُلّ ما يحصل عليه من اهتمامها نظرة عابرة إلى صورته في صحيفة الصباح. 

تكشف ديان دوكريه أن الديكتاتور الإيطالي كان يتلقى من نساء شعبه ما بين 3000 و4000 رسالة شهرياً، يتم إيداعها في أمانة سر الدوتشي الخاصة، بعضها مكتوبة على أوراق منتزعة من دفاتر وضيعة، وبعضها على بطاقات ثمينة من صنع اليد، فقد حظي الدوتشي بمعجباتٍ في أوساط النبيلات وبنات العائلات والفلاحات والراهبات، والعاهرات أيضاً. وعلى عكس هتلر، كان موسوليني مولعاً بتلك الرسائل الغرامية الحميمة، وكان يرد عليها بحميمية مماثلة، بل إنه دعا مرسلاتٍ متحمسات إلى زيارته في قصر البندقية، ليتاح لهن التعرف عليه بشكل أوثق، وتلبية الرغبات الحميمة لبعضهن. وفي حين كانت أي بادرة نقد علني للدوتشي تجر الويلات على صاحبها، كان موسوليني يتقبل من الإيطاليات فقط اللوم على سياساته، كان ضعفه العاطفي يجعله يقبل من النساء الحب والغضب وخيبة الأمل أيضاً، في حين لم يكن يقبل من الرجال سوى الحب والولاء غير المنقوصين.
يمكن أن تأخذ فكرة عن حجم التشوش الذي أحدثته السياسة الفاشية في عقول الناس، في ظل حكم موسوليني، حين تقرأ رسالة أرسلتها إلى موسوليني، في 8 مايو/أيار 1936، شابة من فلورنسا، اسمها مارغريتا، حيث حكت له أنها تناولت في ذات اليوم القربان المقدس للمرة الأولى، وأنها تخيلت أن زعيمها المحبوب هو المسيح: "يا لها من أنانية، أن أتقبلك أنت والمسيح في الوقت نفسه، أن تدخل إلى فمي، أن أجعلك على صدري، أن ترقد على قلبي المسكين، كم كنت أشتهي ذلك". في عام 1940، ترسل إليه شابة في سن العشرين، لتخبره أنها ستتكلل بعد شهرين، وأنها تود أن تأتي إلى روما، ليتاح لها رؤيته "لكن، بما أني لا أستطيع المجيء، فإني أرسل لك مسكّراتي، وأطلب منك على الأقل كلمة تعطيني الشجاعة، لأستهل حياتي الجديدة التي أريدها أن تليق بامرأة فاشية"، وموسوليني كتب بيده ملاحظة على رسالتها تفيد بأن علبة الملبّس التي أرسلتها فارغة، لتكون الملاحظة بمثابة أمر بالتحقيق، فيمن سرق الملبّس الذي أرسلته الشابة الفاشية اليانعة، وهي، على أية حال، لم تكن ملاحظة استثنائية، لأن موسوليني، كما كشفت دراسة مراسلاته، كان يهتم جداً بالهدايا التي تصل إليه من معجباته، في حين لم يكن يستسيغ الطلبات الملحة التي ترسلها نساء يطلبن معونة مالية، أو تدخلاً لحل مشكلاتهن العائلية التي يتجاهلها مسؤولو دولته.
حين سألت ممثلة مسرحية موسوليني ذات يوم، عن سر محبة الإيطاليين الجارفة له، قال لها عبارةً، كان يكررها كثيراً: "لأنهم يعلمون أني أنظر إليهم، يعلمون أني أحب وطني، لا يُحكم المرء إلا بالحب". كان موسوليني يدرك أنه لم يكن يتوجه إلى شعب، بل إلى جمهور، لكنه لم يكن يقول، بالطبع، لجمهوره تلك الجملة التي كتبها يوماً "الجمهور كما النساء، وُجد ليُغتصب"، ومع أنه حكم شعباً كان يعج بالمثقفين والمتعلمين، إلا أن قدرته على مخاطبة غرائز الجموع الحاشدة جلبت له افتتان بعض المثقفين قبل الجهلة، خذ نموذجاً على ذلك، الكاتبة مرغريتا فازيني التي تقول إن موسوليني ورث عن نابليون قدرته على فتنة الجماهير والنساء "اللاتي تجذبهن دائماً القوة متى ما كانت ساحرة، عند الرجال على الأقل، فالجمهور أيضاً أنثوي، وهو كالمرأة، يعرف كيف يميز الرجل الحقيقي"، وهي كلمات لم يكن ينقصها إلا عبارات من نوعية "يا دكري"، أو "نساؤنا حبلى بنجمك".
على عكس هتلر، عاش موسوليني حياة جنسية حافلة، مع كثيرات من معجباته، ليقضي مع بعضهن سنوات، ومع بعضهن ساعات، لكنه حين حلت ساعة النهاية، بعد هزيمة نظامه الفاشي، لم يبق معه إلا واحدة منهن، هي كلارا التي كانت سعيدة أنها تبعته حتى آخر لحظة، لكنه لم يكن سعيداً بصحبتها، حين تمت تصفيته على أيدي الذين ضبطوه، وهو يحاول الهروب متنكراً في ملابس جندي ألماني، ليلقى مصيره المحتوم وحيداً، من دون أن يصحبه الملايين الذين صدقوا أكاذيبه، ولا النساء اللواتي وقعن في غرامه، فلم يكن بصحبته، لحظة النهاية، سوى الأوهام.
نختم غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.