بلدوزر فضّة المعدّاوي
لا يتوقف القتل في مصر. تتجاوز آلة القتل البشر إلى تاريخهم، (ومستقبلهم)، مبانيهم، آثارهم، قبورهم، أمواتهم، حتى الأموات يموتون في مصر مرة أخرى، تُنبش قبورُهم، تدهس البلدوزرات رفاتهم، تنتهك دنياهم وآخرتهم. تتحرّك آلة التدمير، وإلى جوارها آلة التبرير، مجموعة من الهمج والجهلة وأعداء الحياة يحكمون، ومجموعة من الكذّابين والأفاقين والمنافقين يبرّرون، سلطة وإعلام لا يمكن توصيفهم بشكل دقيق، ومن دون مبالغة، سوى بالمجرمين، وأخبار لا عنوان لها سوى الحسرة والألم.
شهدت القاهرة المملوكية، قبل أيام، اعتداء جديدا، وجرائم جديدة، تنضم إلى سوابق أبشع. داست البلدوزرات الحكومية على عدد من مقابر الغفير، التاريخية، الممتدة على طريق صلاح سالم (شرق القاهرة)، خرّبتها، وساوتها بالأرض، من أجل إنشاء محور يربط بين حي الوايلي وشارع الطيران. كان من الممكن الاستعانة بأصحاب الخبرات في تخطيط المدن، وتنفيذ المشروع، حال أهميته، بطرقٍ لا تنتهك الذاكرة العمرانية للمدينة التاريخية، كما يحدث في كل المدن العريقة، الأقل تاريخا من القاهرة، إلا أن من يحمل سلاحا يفضّل قوة الرصاصة على منطق السياسة، فما الداعي للتخطيط والتفكير والتنفيذ الاحترافي، إذا كان بإمكاننا اتخاذ قرارٍ بالإزالة، بالقتل، بالتصفية الجسدية للأموات، والتاريخية للمبنى وما يحمله من معنى.
الجريمة، إلى الآن، قانونية، لها ما يبرّرها، نزع الملكية لصالح المنفعة العامة، والمقابر المعتدى عليها، على الرغم من تاريخيتها، إلا أنها غير مسجلة بالآثار، كأن الميت لا يموت إلا بعد استخراج شهادة الوفاة، كأن عدم استخراجها يحييه، الأوراق لا تصنع الحقيقة، الأوراق فقط تثبتها، إلا أن من يبحث عن تبريرٍ لمجرم لن يلتفت إلى ذلك، الأثر ليس أثرا، والدليل في أوراقنا ودفاترنا.
رأيت صور المقابر المتهدمة، نمطها المعماري الفريد، الأبواب القديمة، الخشب، الشغل اليدوي، قيمة الإنسان، وحُرمة رفاته، رأيتها خرابا في صور، حطاما. رأيتها، من قبل، آلاف المرات، رأي العين، حينا، وجزءا من "كادرات" سينمائية أحيانا، كان المخرجون يتعمدون سحب الأحداث إلى صحراء المماليك، بسبب وبدونه، كي تظهر هذه المقابر في خلفية الكادر، فتمنحه زخما وقوّة وعمقا، ومزيدا من "الونس" للمشاهد المصري الذي دفن موتاه في قطعة من خلود تاريخه. دهس البلدوزر ذلك كله.
لم يتنبأ السيناريست أسامة أنور عكاشة بما حدث. رآه فكتبه، وكتب في مقدمة مسلسل "الراية البيضا"، (الوثيقة)، أن الجريمة حدثت وما زالت تحدث، جريمة الاعتداء على القيمة من معدومي القيمة، ديدان الأرض التي صعدت إلى القمة لتنتقم من كل ما يُشعرها بدناءتها، وقبحها. كانت فيلا الدكتور مفيد أبو الغار رمزا لكل ما هو جميل في الإسكندرية، وكانت فضّة المعدّاوي، تاجرة السمك في الظاهر، والمخدّرات والموت، في واقع الحال، تريد شراء الفيلا، وهدمها. وحين عجزت الفلوس، استخدمت "الحاجة فضّة" سلاح القوة، وربحت، واشترت، (بالقانون)، وجاءت بالبلدوزر لتهدم التاريخ، الفيلا، بمعمارها، وتراثها، وتحفها، وقبوها الذي يحمل قطعةً من تاريخ مصر، في عصر النهضة، وتصدّى لها بعض المصريين، أغلبهم شباب، يحلمون. انتهت الأحداث عند هذه النقطة المعلقة، البلدوزر الذي يستعد للدهس، أمام أجساد الشباب وأرواحهم وحلمهم. كان عكاشة يترك لنا بصيص أمل، ويطلب منا الانضمام للواقفين أمام فيلا أبو الغار، حتى لا يضطرون لرفع الراية البيضاء. الآن تخطى البلدوزر جثث الشباب، ثم تابع إلى رفات أجدادهم، وما تركوه خلفهم، داس على كل شيء، وانتهى الأمر.
تحوّلت صحراء المماليك إلى خرائب، قبور الأهالي، أهالينا، لحقت بقبر المقريزي، مؤرخ مصر، الذي حفظ لنا تاريخ القاهرة الإسلامية، ولم نستطع حفظ رفاته، كورنيش الإسكندرية الذي غيبته كازينوهات القوات المسلحة، وكالة العنبريين في شارع المعز التي يرجع تاريخها إلى عصر السلطان قلاوون، آثارنا المهربة والمخرّبة، من العصور كافّة، الفرعونية، والبطلمية، والرومانية، والقبطية، والإسلامية، فضلا عن قصور الأسرة العلوية التي حوّلها الضباط إلى كتل خراسانية صماء، أبراج ومولات، بعد قليل من الكباري والمحاور، والإنجازات، (إنجازات فضّة المعداوي)، سوف تتحول قاهرة المعز إلى دبي السيسي.