28 يناير 2024
بلاغ كاذب
"أنا بخير .. أنا بخير".. كرّر الرجل الذي لفظ أنفاسه الأخيرة، في بلده، قبل قليل، تلك العبارة بتصميمٍ عجيب، إلى درجة أن بعض المسعفين أقسموا، في أثناء تحرير شهادة الوفاة لاحقاً، أنهم سمعوا تلك العبارة، تنبعث من فم الرجل حتى بعد وفاته، متأثراً بإصاباته البليغة، الناجمة عن اصطدام جسده، بسيارةٍ حكوميةٍ في ذلك الصباح الماطر، عقب خروجه من السجن الذي قضى فيه بضعة أعوام، نتيجة تقديمه "بلاغاً كاذباً"، ادّعى فيه أنه "ليس بخير".
أما الرجل الذي لفظ أنفاسه، في بلده، فقد كانت أمارات الرعب باديةً على وجهه، خشية أن يُعاد إلى السجن، مرة أخرى، بالتهمة نفسها، فيما كان شريط ذاكرته يستعيد أول "بلاغ كاذب" قدّمه في حياته، في ذلك المساء الكالح، وهو يقف أمام مشواة "الفراريج" المركونة خارج أحد المطاعم.
كان موشكاً، آنذاك، على الإغماء، من فرط الجوع، والتعب جرّاء رحلة البحث عن عمل، التي تتكرّر يومياً من دون جدوى، فيما يتفاقم شعوره بالعجز، وهو يتذكّر أطفاله الجوعى الذين ينتظرون عودته بفارغ الصبر، محملاً بما يسدّ رمقهم.
وتصادف، في تلك اللحظة، أن تناهى إلى سمعه، خبر ينبعث من تلفاز المطعم نفسه، صادر عن وزارة الخارجية مفاده: "أعلنت وزارة الخارجية أن جميع مواطنينا في السويد بخير، ولم يُصب أحد بأذى جرّاء الزلزال الذي ضرب عاصمتها هذا الصباح، وفي وسع كل مواطن من بلدنا يقيم هناك، ويحتاج للمساعدة أو الاستفسار، الاتصال على خط الوزارة الساخن رقم......."
على الرغم من أن الخبر انتهى عند هذا الحدّ، لكنه في أذن صاحبنا ظلّ يتردد، خصوصاً عبارة (جميع مواطنينا بخير)، فضلا عن رقم الخط الساخن الذي التصق في ذهنه التصاقاً غريباً، حتى وجد نفسه، ومن دون أي سيطرةٍ على إرادته، يتجه إلى أقرب هاتفٍ عمومي، ليتصل بوزارة الخارجية على خطها الذي لم يتبيّن مدى "برودته"، إلا بعد أن كرّر الاتصال مرات عدة، وما إن فتح الخط أخيراً، وسمع صوت الموظف على الطرف الآخر، حتى راح يصرخ بقوة، مردّداً عبارة واحدة: "أنا لست بخير.. أنا لست بخير"، ثم هوى، أرضاً، ليجد نفسه، في اليوم التالي، مقبوضاً عليه بتهمة تقديم "بلاغ كاذب"، وحكم عليه بالسجن.
غير أن صاحبنا لم يتعلم الدرس الذي دفع ثمنه عشرة أعوام من عمره المهدور على أرصفة التعب، فقد حدث أن سمع بيان وزارة الخارجية يتكرّر، مرة أخرى، إبّان إعصارٍ مدمر ضرب أجزاءً من الولايات المتحدة الأميركية، وبالديباجة نفسها، فيما كان هو ينتظر في صف طويل على باب مستشفى حكومي، للحصول على إبرة أنسولين، تساعده على مواجهة "السكّري" الذي يفتك بجسده، ولأن هذا الانتظار تكرّر أياماً عدة، من دون جدوى، فقد وجد نفسه، يتجه ثانيةً إلى أقرب هاتف عمومي، ويعاود الاتصال بوزارة الخارجية، مبلغاً إياهم أنه "ليس بخير"، وليخسر عشر سنوات أخرى من حياته بين القضبان.
أما هذه المرة، فقد صمم صاحبنا أن يحفظ الدرس جيداً، لأن المسافة بينه وبين قبره لم تعد تحتمل "بلاغاً كاذباً" آخر، فخرج من السجن أكثر حذراً، وقرّر أن يصمّ أذنيه عن كل ما يصدر من بياناتٍ عن وزارة الخارجية وغيرها، وراح يفكّر بطريقةٍ تجعله أقل اكتراثاً بحاجاته الأساسية كلها إذا لزم الأمر.
وفي حمأة ذهوله وتفكيره، لم ينتبه على تلك السيارة المرسيدس الحكومية، ذات النمرة الحمراء القادمة من بعيد مسرعةً، وهو يعبر الشارع، فوجد نفسه "يدهسها" بجسده، ويسقط أمامها مضرّجاً بدمائه، فيما كان المارّة يتحلقون حوله، ويهزون رؤوسهم بأسى.
أما المسعفون الذين حضروا بعد ساعاتٍ، إثر "بلاغ صائب"، فقد أقسموا أنهم سمعوا الرجل الذي فارق موت الوطن قبل قليل، يردّد عبارة واحدة: "أنا بخير.. أنا بخير".
أما الرجل الذي لفظ أنفاسه، في بلده، فقد كانت أمارات الرعب باديةً على وجهه، خشية أن يُعاد إلى السجن، مرة أخرى، بالتهمة نفسها، فيما كان شريط ذاكرته يستعيد أول "بلاغ كاذب" قدّمه في حياته، في ذلك المساء الكالح، وهو يقف أمام مشواة "الفراريج" المركونة خارج أحد المطاعم.
كان موشكاً، آنذاك، على الإغماء، من فرط الجوع، والتعب جرّاء رحلة البحث عن عمل، التي تتكرّر يومياً من دون جدوى، فيما يتفاقم شعوره بالعجز، وهو يتذكّر أطفاله الجوعى الذين ينتظرون عودته بفارغ الصبر، محملاً بما يسدّ رمقهم.
وتصادف، في تلك اللحظة، أن تناهى إلى سمعه، خبر ينبعث من تلفاز المطعم نفسه، صادر عن وزارة الخارجية مفاده: "أعلنت وزارة الخارجية أن جميع مواطنينا في السويد بخير، ولم يُصب أحد بأذى جرّاء الزلزال الذي ضرب عاصمتها هذا الصباح، وفي وسع كل مواطن من بلدنا يقيم هناك، ويحتاج للمساعدة أو الاستفسار، الاتصال على خط الوزارة الساخن رقم......."
على الرغم من أن الخبر انتهى عند هذا الحدّ، لكنه في أذن صاحبنا ظلّ يتردد، خصوصاً عبارة (جميع مواطنينا بخير)، فضلا عن رقم الخط الساخن الذي التصق في ذهنه التصاقاً غريباً، حتى وجد نفسه، ومن دون أي سيطرةٍ على إرادته، يتجه إلى أقرب هاتفٍ عمومي، ليتصل بوزارة الخارجية على خطها الذي لم يتبيّن مدى "برودته"، إلا بعد أن كرّر الاتصال مرات عدة، وما إن فتح الخط أخيراً، وسمع صوت الموظف على الطرف الآخر، حتى راح يصرخ بقوة، مردّداً عبارة واحدة: "أنا لست بخير.. أنا لست بخير"، ثم هوى، أرضاً، ليجد نفسه، في اليوم التالي، مقبوضاً عليه بتهمة تقديم "بلاغ كاذب"، وحكم عليه بالسجن.
غير أن صاحبنا لم يتعلم الدرس الذي دفع ثمنه عشرة أعوام من عمره المهدور على أرصفة التعب، فقد حدث أن سمع بيان وزارة الخارجية يتكرّر، مرة أخرى، إبّان إعصارٍ مدمر ضرب أجزاءً من الولايات المتحدة الأميركية، وبالديباجة نفسها، فيما كان هو ينتظر في صف طويل على باب مستشفى حكومي، للحصول على إبرة أنسولين، تساعده على مواجهة "السكّري" الذي يفتك بجسده، ولأن هذا الانتظار تكرّر أياماً عدة، من دون جدوى، فقد وجد نفسه، يتجه ثانيةً إلى أقرب هاتف عمومي، ويعاود الاتصال بوزارة الخارجية، مبلغاً إياهم أنه "ليس بخير"، وليخسر عشر سنوات أخرى من حياته بين القضبان.
أما هذه المرة، فقد صمم صاحبنا أن يحفظ الدرس جيداً، لأن المسافة بينه وبين قبره لم تعد تحتمل "بلاغاً كاذباً" آخر، فخرج من السجن أكثر حذراً، وقرّر أن يصمّ أذنيه عن كل ما يصدر من بياناتٍ عن وزارة الخارجية وغيرها، وراح يفكّر بطريقةٍ تجعله أقل اكتراثاً بحاجاته الأساسية كلها إذا لزم الأمر.
وفي حمأة ذهوله وتفكيره، لم ينتبه على تلك السيارة المرسيدس الحكومية، ذات النمرة الحمراء القادمة من بعيد مسرعةً، وهو يعبر الشارع، فوجد نفسه "يدهسها" بجسده، ويسقط أمامها مضرّجاً بدمائه، فيما كان المارّة يتحلقون حوله، ويهزون رؤوسهم بأسى.
أما المسعفون الذين حضروا بعد ساعاتٍ، إثر "بلاغ صائب"، فقد أقسموا أنهم سمعوا الرجل الذي فارق موت الوطن قبل قليل، يردّد عبارة واحدة: "أنا بخير.. أنا بخير".