بلاغة الماضي لإسعاف المستقبل القاسي في المغرب
اختار ملك المغرب، في خطاب العرش قبل أيام، أن يعطي الكلمة للماضي الوطني المشترك بين الملكية والشعب وقواه السياسية، لكن قراءةً متأنيةً تكشف أنه لم يفعل ذلك نتيجة سطوة الحنين، بل من أن أجل أن يتكلم الماضي… عن المغرب اليوم، وعن المستقبل كما سيتضح من بنيات الخطاب، فقد غذّى محمد السادس خطابه بشحنةٍ وطنية، أعادت عيد العرش، الذي تم ترسيمه في نوفمبر/ تشرين الثاني 3391 عملا وطنيا ضد سلطات الحماية إلى جوهره الأصلي في التعبئة الوطنية حول الملكية، بعد أن كان قد قال بالحرف الواضح: "إن عواقب الأزمة الصحية (يقصد أزمة كوفيد) ستكون قاسية"، وهو إقرار بأن الوضع القادم سيفرض على المغاربة مضاعفة الجهود، وأكثر من ذلك الدخول في مغامرة تستعيد بها البلاد قوتها، من جرّاء ما ينتظرها. وفي استحضار الماضي في الحاضر تضمين للحاجة إلى تعبئة شاملة لا تقل عن تعبئة الاستقلال، لحظةً كان قد سمّاها أول ملك يحتفل معه بعيد العرش، الراحل محمد الخامس، لحظة الجهاد الأصغر (الحرية) ثم الجهاد الأكبر (البناء). .. وقبل التدقيق في المقصود بذلك، لا بد من تسجيل ما يلي:
- إنها المرة الأولى الذي يتحدث فيها ملك المغرب عن الوضع في بلاده، منذ بداية الأزمة التي اجتاحت العالم، فهو فضل التحرّك في الميدان، بقوة رمزياته وشرعيات المؤسسة الملكية المتعدّدة، سواء أمير المؤمنين (تدبير الحقل الديني والإقناع بالقرارات التي اتخذتها البلاد في هذا الشأن)، أو قائدا عاما للجيش (بتعبئة الجيش والأطباء العسكريين واللوجيستيك المادي والعلمي للقوات المسلحة)، أو رئيس دولة، له دستوريا صلاحيات الإشراف على حسن سير المؤسسات، لمتابعة الوضع واتخاذ المبادرات. وقد كان المغرب ينتظر بالفعل قراءة الملك لحاضر البلاد في الأزمة، ثم توقعاتها الآنية والمستقبلية، ولا سيما أن المشاريع السياسية والمشاريع المضادة قد طغت في واحدةٍ من لحظات النقاش بشأن مآلات البلاد مع تدبير الجائحة، وكان الصمت في أعلى هرم الدولة يفتح تآويل وشهيات عديدة.
أعلن الملك محمد السادس عن ضخ 120 مليار درهم (21 مليار دولار) في الاقتصاد الوطني، أي ما يعادل 11% من الناتج الداخلي الخام
وفي أفق الانتظار هذا، أعلن محمد السادس أن المرحلة "القادمة ستكون قاسية". وأعلن، في الوقت ذاته، عن حزمة من الإجراءات التي تتجاوز الأفق السياسي المنظور إلى الدخول في "منعطف حاسم". وتمهيدا لهذا، تم عرض خريطة طريق واضحة ومرقمة ومجدولة في الزمن والطبقات، ومن ذلك:
* الإعلان عن ضخ 021 مليار درهم (12 مليار دولار) في الاقتصاد الوطني، أي ما يعادل 11% من الناتج الداخلي الخام، وهو من أعلى الأرقام دوليا، بالحساب التناسبي، يخصّص للإقلاع الاقتصادي في سياق الجائحة الحالية.
* إعطاء انطلاقة سد الخصاص الرهيب الذي سجلته البلاد من خلال قطاعاتها الاجتماعية، وهي معطياتٌ قاسية، كان العاهل المغربي ذاته قد نبّه إلى خطورتها، عندما أعلن، في السابق، عن عدم استفادة المقصيين والمهمشين وقطاعات شعبية واسعة من التحديث المادي والاقتصادي في البلاد، غير أن الجائحة منحت الأرقام قساوة أكبر. ومن ذلك كشفها عن حجم القطاع غير المهيكل؛ وضعف شبكات الحماية الاجتماعية، خصوصا بالنسبة للفئات الأكثر هشاشة، وارتباط عدد من القطاعات بالتقلبات الخارجية.
* الإعلان عن عملية حازمة، لتعميم التغطية الاجتماعية لجميع المغاربة، خلال الخمس سنوات المقبلة، وتحديد الأول من يناير/ كانون الثاني2021 ، وهي سنة انتخابية، لانطلاق تعميم التغطية الاجتماعية على كل المغاربة، بشكل تدريجي على مدى خمس سنوات، وهو ما يغطّي ولاية الحكومة المغربية المقبلة، من ألفها إلى يائها.
* الدعوة إلى تعاقد وطني بين الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين، من أجل تجاوز الوضع الاجتماعي الصعب، وتعبئة الموارد البشرية لتجاوز الأزمة.
حدد الملك الأول من يناير2021 نقطة لانطلاق تعميم التغطية الاجتماعية على كل المغاربة، بشكل تدريجي على مدى خمس سنوات
* إصلاح عميق للقطاع العام، ومعالجة الاختلالات الهيكلية للمؤسسات والمقاولات العمومية، عبر وكالة وطنية، مهمتها التدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة، ومواكبة أداء المؤسسات العمومية.
* ولعل فاكهة الحلوى، كما يقال، في تنبيه الملك إلى أن المرحلة المقبلة تتطلب تضافر جهود كل المغاربة لرفع تحدياتها "وبالتالي التوجه إلى كل القوى الوطنية دون استثناء، ومخاطبة روح الغيرة الوطنية، والمسؤولية الفردية والجماعية فيها، للانخراط القوي في الجهود الوطنية لتجاوز هذه المرحلة، ومواجهة تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية".
الواضح أن الخطة المعلنة من الملك تتجاوز الزمن الانتخابي الذي ستفتتحه البلاد، من أجل تدبير المرحلة المقبلة. والواضح أيضا أن البرنامج الذي ستشرع فيه هذه الحكومة، في بداية يناير/ كانون الثاني المقبل، هو برنامج الحكومة المقبلة، وهو ما يعطي ترتيبا لأولويات برنامجاتية، لا تباينات كبرى فيها بين القوى السياسية.
وبمعنى آخر، هذا البرنامج الاجتماعي الوطني الاستراتيجي لا يمكن أن تختلف حوله الهيئات الحزبية، اللهم في جانبه المتعلق بالتدبير. والمغاربة الذين تابعوا الخطاب، أو المتتبعين المهتمين بالشأن المغربي، التقطوا هذه العودة إلى "نظام تاريخاني" (régime d’historicité)، بلغة المورخ فرانسوا هارتوغ، بالمعنى الذي يعنيه هذا النظام، أي "طرق تمفصل الماضي والحاضر والمستقبل". وإذا كانت الإحالة إلى البعد التاريخي تحضر في كل مناسبة، فإنها اكتست، هذه المرة، قوة لم تغفلها متابعة المواطنين، كما المتتبعين النبيهين، الخطاب، حيث افتتح برمزيات التاريخ، واختتتم بها يوم29 يوليو/ تموز.
سواء كمتن لغوي أو كبناء برنامجاتي أو كأفق سياسي، كان خطاب محمد السادس يعلن عن منعطف حاسم، يشترك فيه المغاربة جميعا
يبدو من خلال التوطئة أن استنهاض الأبعاد الرمزية لتاريخية الحدث كانت من أجل التركيز على نقطة ارتكاز قوية، قامت عليها حياة المغرب الحديث، وهي قاعدة التعاقد الوطني الذي جدد للملكية وظيفتها التاريخية، بوصفها وظيفة تحرّرية، في وقتٍ كانت جل الملكيات قد انحازت إلى الاستعمار أو تعاملت معه. وفي الوقت ذاته، أبرز القاعدة السياسة التمثيلية للشعب المغربي، من خلال ممثلي الحركة الوطنية، وأولئك الذين سيشغلون كل لحظات الاستقلال بعنفها وعنفوانها، وصراعاتها السياسية وتناقضاتها، خصوصا أيام الملك الراحل الحسن الثاني بالأساس.
الواضح أن الشرط البرنامجاتي، لكل تنافس بين الأحزاب، ربما سيقل، إن لم نقل سيضعف بوجود برنامج اجتماعي اقتصادي يتخطّى الظرفية الآنية، إلى السنوات الخمس المقبلة، كما أن الشرط التنافسي سيترك المكان لشرط توافقي أكبر، تستوجبه متطلبات الحاضر وتخوفات المستقبل، كما تستدعيه قوة الماضي المشترك. يضاف إلى ذلك أن الشرط الوطني العام، والذي يستنهض كل بلاغات الماضي، ووجدانياته، وكل قساوة المستقبل، يضع إطارا عاما لما يمكن أن نحدسه من خطاطات للخروج من الوضع، وفي قلبها التوافق الوطني الشامل (تعاقد وطني بناء، حسب توصيف العاهل المغربي) حول البرنامج المعلن في ظروف الجائحة.
سواء كمتن لغوي أو كبناء برنامجاتي أو كأفق سياسي، كان الخطاب الذي ألقاه محمد السادس يعلن عن منعطف حاسم، يشترك فيه المغاربة جميعا. ولعله أول أفق سياسي ذي طبيعة تدبيرية يتحقق فيه هذا الشرط بعد دستور 2011 الذي قام بترصيد مكتسبات التحولات الكبرى في مرحلة الربيع العربي وما قبلها من انتقالات العهد الجديد.