بفضل هؤلاء سيكرم الله السيسي "آخر كرم"

07 ديسمبر 2015
+ الخط -
(1)

"انتو بتقوموا بدور عظيم جدا في ظروف صعبة، إن احنا نوفر الأمن والاستقرار والسلام للناس، والمواطن المصري لا يروّع في بلدنا، انتو ليكو فضل كبير أوي في ده، وأنا باقول الكلام ده عشان عايز الشعار اللي أطلقناه، لما قلنا الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة، نعيشه ونفضل مُصرّين عليه لإن دي ملحمة عظيمة". 

لم تظهر "الحنيّة" من فراغ في نبرات صوت عبد الفتاح السيسي، وهو يخاطب رجال شرطته بهذه الكلمات، ولم تفارقه تلك "الحنيّة" حين تحدث في خطابه الحميم عن "تجاوزات فردية بسيطة للشرطة"، دون حتى أن يشخط أو يرفع نبرة صوته قليلا، على سبيل فرض الهيبة أو من باب العشم الأبوي، كما فعل ذلك من قبل، حين تحدث عن تجاوزات أذرعه الإعلامية، كما لم تكن صدفة أبدا، ألا تخرج منه طيلة خطابه، عبارة عتاب من طراز "ما يصحش كده" أو "أنا حاشتكي للشعب منكم"، لأن السيسي يدرك أن الحفاظ على معنويات رجال شرطته، شرط ضروري لدوام احتفاظه بكرسيه الذي حلم به طويلا، وأنه حتى إذا كان عاتبا على ضباطه، بسبب المشاكل التي قاموا بتوريطه فيها من الأقصر إلى الإسماعيلية، فعليه أن يؤجل ذلك العتاب، أو يوجّهه بلطف لقادة الشرطة في الجلسات المغلقة، ليحتفظ بتماسك آلته القمعية، ولكي لا يتردد رجال الشرطة في القتل من أجله مجددا، لو استلزم الأمر قمع أي تظاهرات غاضبة في المستقبل القريب، مفضّلا أن يخذل مؤيديه من الكتّاب أو الإعلاميين أو حتى أهالي الضحايا، الذين توقعوا منه اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف السُّعار القمعي، الذي انتاب جهاز الشرطة في الفترة الأخيرة، لكن السيسي قرر أن يعلن انحيازه لجهاز الشرطة على الملأ، لأنه وببساطة "يا روح ما بعدك روح".

(2)

"مشاعر أهل المعتقل دايما بتكون متضاربة، ساعات أحس بانشراح شديد لإنه هيخرج ولما أعرف إنه اتجدد له، أعيش يومين تعبانة وعندي يأس، آكل ساعات بشهية، ولما أفتكر حبسته، اللقمة تقف في فمي، مش حتى في زوري، أبقى سقعانة وأحط عليّ غطا، ولما أفتكره أشيله عشان أبقى زيي زيه، طيب حاستمر على كده كتير؟ ما اعرفش، باروح شغلي آه، وحياتنا ماشية بالزق، بس ماشية، استغنينا عن حاجات، علشان نعيش، أنا ما كانش لي أي اتصال بحد من أهالي المعتقلين، دلوقتي بادور عليهم، عشان آخد خبرتهم في التعامل، مع الناس اللي في السجن، وإيه اللي ممكن يروح له، وممكن يبقى محتاج إيه، اكتشفت إن ده مش من حقي، لأن الدولة لا بتسمح لا بزيارة أسرته، ولا بزيارة المحامي، عشان سجن العقرب لشديدي الخطورة على البلد، خلاص حاتنازل، مش عايزة زيارة، عايزة أدخل لبس شتوي ودوا، لإنه عيان، لكن اكتشفت إن ده كمان مش من حقي، لا لبس ولا دوا، خلاص حاتنازل أنا عايزة أدخل له دوا، بس مش أكتر من كده، أنا عارفة يا بلدي إني طماعة، بس معلهش دخّلوا له دوا، حرام ده مريض، لأ مش من حقه، ده العقرب".

هكذا كتبت الدكتورة منار الطنطاوي، زوجة الباحث والصحافي الكبير هشام جعفر، المعتقَل في

سجن العقرب منذ أكثر من شهر، دون أن يعرف أهله طبيعة الجريمة النكراء، التي دفعت قوات الأمن إلى شن غارة على بيته، تليق بعتاة المجرمين، حيث تم تقييد يديه وعصب عينيه، والاعتداء على ابنه بالضرب، لأنه طالب القوات المغيرة بالسماح له برؤية والده المحتجز في بوكس الشرطة أسفل المنزل، لتتم بعدها مصادرة جميع الأموال وأجهزة الكمبيوتر والتليفونات المحمولة بما فيها التي تخص زوجته وأبناؤه، فضلا عن مصادرة جميع الأوراق الرسمية التي تخص الأسرة، دون أن يعلم أحد هل تم تحريز ما تمت مصادرته أم سيعتبر غنيمة بوليسية مباحة، لأن النيابة ظلت ترفض إتاحة أوراق القضية لدفاع هشام جعفر وحسام السيد زميله السابق وجاره، والمعتقل معه في نفس القضية، حيث يحتجز الاثنان الآن في سجن العقرب، دون أن يعرف أهلهما طبيعة التهم الموجهة إليهما، ودون أن يفهموا سببا لتعنت الأمن في إدخال الأدوية والبطاطين والملابس الشتوية لهما، وليجد أفراد الأسرتين أنفسهم مطالبين بنفي ما يتردد عن انتماء هشام وحسام إلى جماعة الإخوان، والحديث المتواصل عن المشاريع البحثية المهمة، التي كان هشام جعفر يعمل فيها في مؤسسة (مدى)، التي كانت تشترك في بعض تلك المشروعات مع مؤسسات حكومية، إذ لربما أدى اقتناع عدد أكبر من الناس باستقلالية المؤسسة، إلى حدوث ضغط أكبر، من أجل أن ينال هشام جعفر وحسام السيد أبسط حقوقهما في معاملة إنسانية لائقة. 

(3)

جيران البراء محمود الرفاعي في مركز كفر البطيخ بمحافظة دمياط، لم يكونوا يتوقعون أبدا، أن يكون جارهم البالغ من العمر 23 عاما، والطالب بكلية تجارة المنصورة، هدفا لتلك الغارة الأمنية المريعة التي داهمت بيته في الثانية من صباح الجمعة 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، لتقبض على البراء وسط حيرة أبيه وإخوته الأربعة، وليتم أخذه بعدها لجهة غير معلومة حتى الآن، دون أن تحصل الأسرة طيلة الأيام الماضية، على أي معلومات تفيد بإجراء تحقيق معه، لمعرفة أسباب القبض عليه بذلك الشكل المفزع، والذي أحدث لدى الأسرة ذعرا، يتضاعف كل لحظة، لأن البراء مصاب بمرض مزمن في القلب، وحالته الصحية تحتاج للرعاية العاجلة، التي يدرك الجميع أنه لن يتلقاها بالطبع، خاصة بعد ما يقرأونه ويسمعونه عن تدهور الأحوال الصحية للمعتقلين، لكنهم لا يملكون على أية حال، سوى إرسال الاستغاثة تلو الأخرى، إلى كل ما يتوفر لديهم من عناوين المنظمات الحقوقية والقنوات الفضائية والصحف، ولا زالوا ينتظرون الإجابة، أي إجابة.

لكن حال أهل صبري عبد الله محمد صبري ـ مهندس اتصالات ـ 27 سنة، برغم قسوتها تظل أفضل من حال أهل البراء محمود، فهم على الأقل يعرفون الآن أن ابنهم معتقل منذ سبعة أشهر ونصف في سجن العقرب، بعد أن جاءت قوة من مباحث الشرابية إلى منزله للقبض على أبيه بتهمة أنه متعاطف مع الإخوان، لتقوم القوة بالقبض على صبري أيضا، لكن النيابة أفرجت عنه بعد يومين، لعدم وجود قضية من أي نوع، وبدلا من أن يعود إلى البيت، اختفى صبري لمدة شهر، لتتلقى أمه منه اتصالا تليفونيا بعد شهر، تمكّن من توفيره ببركة ولاد الحلال، أو ببركة الرشوة، لا أحد يدري، لكن المهم أنه قال لأمه في المكالمة إن الأمن الوطني قبض عليه، بعد أن أفرجت عنه النيابة، ليتم احتجازه في لاظوغلي ـ أشهر مقرات أمن الدولة وأسوأها سمعة ـ ليتعرض لتعذيب شرس، أجبره على أن يوقّع على اعترافات في قضية وصفها في المكالمة المقتضبة بأنها "قضية أمن دولة".

كانت تلك المكالمة هي الخيط الذي التقطه أهل صبري، للبحث عن ابنهم، ليعرفوا بعد رحلة بحث مؤلمة، أن ابنهم تم ترحيله إلى سجن العقرب شديد الحراسة، وأن تجديد حبسه يتم بشكل دوري كل 45 يوما، على ذمة قضية مسجلة برقم 326 حصر أمن دولة لسنة 2014، مع أن صبري مقبوض عليه في مارس/ آذار 2015، أي بعد القضية المزعومة بسنة، وأهله لا يعرفون حتى الآن كيف يمكن التواصل معه لبحث طريقة للدفاع عنه، فضلا عن عدم تمكنهم من إدخال أدوية إليه، بعد أن علموا عبر رسول أنه أصيب بالجرب في محبسه، بسبب ندرة تعرضه للشمس، وهي شكوى كررها بعض المعتقلين لأهاليهم، بل وتسربت بعض الصور للحالات المصابة، ومع ذلك لم يتحرك أحد لوقف هذه المهزلة، لسبب بسيط هو أن رجال الشرطة المتورطين في جرائم مثل هذه، رضي السيسي عنهم ورضوا عنه ورضي الملايين بهم أجمعين، أملا في الأمن والاستقرار، وعلى المتضرر أن يلجأ إلى الله أو إلى أقرب حائط فيسبوك ليشتكي عليه، أو أقرب حائط خرساني ليخبط رأسه فيه.

(4)

"الحكومة ما لهاش كبير، وأنا ماليش ضهر، أنا لو اتكلمت ما حدّش هيجيب لي حقي، لإن ما

فيش عدل، أنا مستعدة أقف في ميدان عام، وأكشف جسمي لكل الناس، عشان يشوفوا بنات مصر حالهم وصل لإيه، وفي الآخر ما حدش هيعمل حاجة، وهيطلعوا يقولوا احنا هنشوف وهنحاسب، وأنا هافضل بالفضيحة دي طول عمري". هكذا أصبحت هاجر محمد إبراهيم البالغة من العمر 17 سنة، تدرك حقيقة الحياة في مصر، بعد أن تعرضت للتعذيب داخل قسم ثان شبرا الخيمة، حيث أجبرها الضباط على خلع ملابسها، وتحرشوا بها ليجبروها على الاعتراف بواقعة سرقة لم ترتكبها، ولولا أن صحيفة (التحرير) نشرت الواقعة، لما وصلت شكوى هاجر إلى القلة القليلة التي لا زالت تأسى للظلم وتفزع منه.

هاجر للأسف لم تجد عائلة قوية تقف خلفها مطالبة برد اعتبارها، أو معارف يقلبون الدنيا أسى لحالها، لذلك لم تجد تضامنا واسعا كالذي حظي به غيرها، مع أن ما حدث لها في القسم كان أبشع وأشنع ممّا يمكن أن تتخيّل: "قال لها أحد الضباط اركعي قدامي، ثم صفعها على وجهها، وبعد وصلة من التعذيب والضرب بشومة بمنطقة الصدر والظهر وباقي الجسم، قال لها معاون المباحث "بقولك إيه ما تقلعي كده خلينا نتفرج شوية"، وحين بكت وقالت للضابط: يرضيك يا باشا بنتك يحصل فيها كده، قال لها: بنتي مش حلوة زيك وعلى فكرة أنا هخرّجك من هنا مدام". هكذا حكت صحيفة (التحرير) ما تعرضت له هاجر، مرفقة ذلك بأرقام المحاضر والبلاغات الرسمية التي تقدمت بها أسرتها للحصول على حقها، ومع ذلك لم يسلم الأمر من معلقين "شرفاء" أخذوا يشككون في قصة هاجر، بدعوى أن "شكلها ولهجتها" يفيدان بأنها "قادمة من بيئة متعوّدة على دخول الأقسام، وبالتالي يمكن أن تكون قد سرقت بالفعل، ويمكن "تكون بترمي بلاها" على ضباط الشرطة الشرفاء"، كما لم يسلم الأمر أيضا من معلقين يتحدثون عن استحالة حدوث واقعة مثل هذه في ظل "رمز الشرعية محمد مرسي"، ناسين أن مرسي وجماعته خلال فترة تحالفهم مع المجلس العسكري، ثم فترة حكمهم القصيرة، لم يقصّروا في إنكار تجاوزات الشرطة وحماية جلاديها، ولم يتوانوا عن تشجيعهم على القتل إن لزم ذلك لحماية نظامهم، الذي كانوا يتخيلون أنه سيدوم طويلا، وحتى حين كانت تحدث وقائع تنتهك فيها حقوق مواطنين بسطاء مثل هاجر، كان كثير من أنصار الإخوان يشيرون إلى "أشكالهم وطريقة حديثهم"، كدليل على كونهم مشبوهين وأصحاب سوابق، تم دفعهم للإطاحة بالحكم الشرعي المنتخب.

لا يمكن فصل تعليقات كهذه، عن الظروف المأساوية التي تعيشها مصر الآن، بين عمليات إرهابية غادرة تستهدف ضباط الشرطة والجيش والمدنيين، وعمليات قمع مجنون تبطش بالكل دون تمييز، وفي ظل هذا كله، يصعب أن تطالب أحدا بأن يتعقّل، ويدرك خطورة تبرير الظلم على مستقبل البلاد، فضلا عن أن تطلب من الكل ضرورة تأمّل الماضي القريب، لإدراك أن ما جرى في مذبحة رابعة وما تلاها من بطش، لم يولد من فراغ، بل كانت له سوابق أسّست له، بدءا من مذبحة ماسبيرو وما تلاها في محمد محمود ومجلس الوزراء، ووصولا إلى ما حدث حول أسوار قصر الاتحادية في ديسمبر/ كانون الأول 2012، حين قرر قادة الإخوان أن يضعوا مصر تحت رحمة الشارع ومشاعره الغاضبة المنفلتة، فانقلب ذلك عليهم، ودفعوا هم وأنصارهم ثمنه غاليا بشكل غير آدمي وغير مبرر، دون أن يجدوا من يرفض ذلك، اللّهمّ إلا قليلا من الذين ظلوا يؤمنون بحرمة كل الدم المصري، ويدركون خطورة الإيغال في العنف، ويرفضون إهدار العدالة وحقوق الإنسان، أما الإخوان فقد ظلوا للأسف، يرون دماء إخوانهم وحدها، الأحق بالغضب والتنديد، تماما كما يرى السيسي رجال شرطته وحدهم الأحق بالمراعاة ورد الاعتبار، متجاهلا أصوات ضحاياه الذين سنواصل الحديث عنهم في الغد بإذن الله.

  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.