بعضٌ من سيرة هوديني

21 ابريل 2020
+ الخط -
عندما يُذكر السحر كفن تسلية يجذب الجمهور لمشاهدة الحيل المبهرة، وليس كمجال لأعمال الربط والتعزيم وخراب البيوت وتمائم الحظ والإنجاب، يُذكر الساحر الأميركي هاري هوديني الذي يوصف دائماً بأنه أعظم ساحر شهده العالم، مع أن عشرات الأجيال لم تشهد ما كان يقوم به من حيل خصوصاً حيله الهروبية المعقدة.

توفي هوديني سنة 1926 ولم تشتهر كثيراً بعد رحيله الأفلام التسجيلية القصيرة التي صورت ما كان يقوم به من حيل كما اشتهرت مثلاً أفلام شارلي شابلن وباستر كيتون وغيرها من الأفلام الصامتة، ومع ذلك فلا يزال هاري هوديني بعد كل هذه السنين المثل الرفيع الذي يقتدي به كل من يقدمون فنون السحر في العالم، وصاحب أعلى سقف في النجومية يطمح البارعون في فن السحر في كسره وتجاوزه، ولذلك لم يكن غريباً عندما يتم تقديم مسلسل تلفزيوني قصير عن هوديني أن تكون الجهة التي تعرضه هي قناة "هيستوري" الشهيرة والمتفردة بتخصصها في التاريخ.

لم يجد منتجو المسلسل ممثلاً يؤدي دور هوديني أفضل من الممثل الأميركي أدريان برودي الذي حصل على أوسكار أحسن ممثل سنة 2002 عن دوره الرائع في فيلم "عازف البيانو" وكان وقتها أصغر ممثل يحصل على الجائزة، وقد حلت عليه بعدها أسطورة اللعنة التي تصيب كثيراً من الممثلين الذين يحصلون على الأوسكار في وقت مبكر، حيث تتخبط مشاويرهم الفنية بتأثير تلك الجائزة.

ورغم أن أدريان برودي قدم بعد حصوله على الأوسكار أدوارا متميزة في أفلام مثل "كينج كونج" و"هوليود لاند" و"الجاكيت"، إلا أنها لم ترق أبداً إلى الأثر الفني والجماهيري الذي أحدثه في فيلم "عازف البيانو" مع المخرج رومان بولانسكي، ولذلك كان تصديه لدور هوديني تحدياً فنياً له، لعل سحر هوديني يساعده على استعادة سحره كممثل، وهو أمر لم ينكره برودي جاداً وليس ساخراً في كل الحوارات التلفزيونية والصحفية التي أجراها ترويجاً للمسلسل، ومع أنه نجح في تجسيد الدور ببراعة، إلا أن نجاحه فيه لم يساعده على إنعاش مسيرته السينمائية، على الأقل حتى الآن.

لم يكن السحر غريباً على إدريان برودي، فقد قال إن أكثر ما جذبه لأداء شخصية هوديني، هو علاقته القديمة بالسحر منذ نشأ في منطقة وودهيفن في حي كوينز بمدينة نيويورك، حيث اكتسب سمعة بين جيرانه بقدرته على تقديم حيل سحرية، ونجح في أن يجعل من تلك السمعة مصدراً للرزق حيث كان يُدعى لإحياء حفلات أعياد الميلاد التي كان يقدم فيها فقرات تحت عنوان "أدريان المدهش"، ولذلك لم يصدق برودي أنه وجد الفرصة لتجسيد حياة بطل مراهقته أو بمعنى أصح بطل أي شخص عمل في فن السحر، لكنه اكتشف خلال تجسيده لشخصية هوديني وهو في سن الأربعين أنه لن يستطيع أبداً أن يقتدي بهوديني في حياته الشخصية، لأن هوديني كان دائما يعيش مطارداً بهواجس أن تكون حيلته القادمة أكبر من الحيل السابقة، وبسعيه لأن يحصل دائماً على درجات من الإبهار أعلى وأقوى تجعل الجمهور منجذباً لحضور عروضه، وهو ما يقول برودي إنه أمر مستحيل الحدوث في عالم السينما، لأن الممثل لا يصنع الحيلة، بل يختار أفضل الحيل التي تقدم له لكي يختار من بينها.

يفتتح المسلسل التلفزيوني مشاهده بتقديم أشهر وأخطر حيلة هروب قدمها هاري هوديني في تاريخه عندما قام بالقفز وهو موثق بالأغلال من أعلى جسر ليسقط في ثغرة تم فتحها خصيصا في جليد نهر متجمد، وليخرج بعد قليل من عمق النهر وقد تخلص من أغلاله، وهي حيلة اختارها المسلسل لتكون مدخلا تتعرف منه الأجيال الجديدة على شخصية ذلك الفنان المدهش، ونجح المسلسل في تنفيذها بشكل مبهر، يجعل من يشاهدها لا يلقي بالاً لحقيقة أن هوديني لم يقم بهذه الخدعة فعلاً كما قدمها المسلسل، فقد قام المسلسل بتصميم المشهد بالاعتماد على عدة خدع قدمها هوديني، فقد كان بالفعل مولعاً بالقفز من الجسور وهو مقيد بالسلاسل والخروج من النهر متخلصاً من قيوده، فعل ذلك من على عدة جسور في نيويورك وغيرها، وكانت قفزته الأخطر من فوق جسر في ديترويت عام 1906، لكن النهر في ذلك اليوم لم يكن متجمداً، ومع ذلك فقد قام هوديني بالسقوط مقيداً في ثغرة تم فتحها داخل بحيرة جليدية، ليخرج منها بدون قيوده، فيخرس ألسنة من كانوا يتهمونه بأن لديه من يساعده على التخلص من قيوده تحت سطح الماء.

لم يجد صناع المسلسل حرجا في إعلان ما قاموا به من تغييرات درامية وفنية، لأنهم يعتبرون أن هدف المسلسل لم يكن إعادة إحياء خدع هوديني كما حدثت، بل إعادة تعريف الأجيال الجديدة على هوديني، الذي كان واحداً من أكبر الرموز الثقافية بالمعنى الواسع للكلمة في العصر الذي عاش فيه، حيث لم يكن السحر وقتها كما هو الحال في العقود الأخيرة، مجرد فن مسلٍ تلمع فيه بعض الأسماء الشهيرة ثم تنطفئ، فقد كان هوديني كأنه مكتشف هذا الفن، ولذلك فقد حظي بأهمية غير مسبوقة خلال جولاته المتعددة في أميركا وأوروبا، دفعت السلطات الأميركية لتجنيده للعمل كجاسوس لمصلحة أميركا خلال رحلاته في أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى.

لكن هوديني ـ وهو بالمناسبة من أصل مجري ـ لم يكن مفيداً لأميركا كجاسوس، بقدر ما كان مفيداً لها على المستوى السياسي والإعلامي، حين تحول إلى رمز للحلم الأميركي الذي كان يواصل الصعود وقتها، في ظل المآسي والاضطرابات التي كانت تعصف بأوروبا في ذلك الوقت الحرج من تاريخ العالم.

يتحدث المسلسل أيضاً عن علاقة هوديني مع زوجته بيس ـ لعبت دورها الممثلة كريستين كونولي ـ والتي جذبته عندما رآها تعمل كفتاة استعراض، ليكون حباً من أول نظرة أفضى إلى زواج بعدها بأيام، لتبدأ بيس العمل بعدها في عروضه السحرية بصحبة مساعده جيم كولينز، ولنرى من خلال الأحداث كيف بدأ قلقها يتصاعد عليه بسبب هوسه بعمله وحرصه على الانتقال من حيلة خطيرة إلى حيلة أخطر، وكيف حاولت باستماتة أن تمنعه من أداء أي حيل خطيرة، خاصة أنه يستطيع تقديم حيل سهلة وآمنة ترضي الجمهور، لكن هوديني لم يكن أبدا ليوافق على حياة سهلة، فقد كان أداء حركات خطيرة مثل القفز مقيداً من فوق الجسور، جزءاً من تعبيره عن تحديه للحياة الصعبة التي خاضها كطفل فقير ينتمي لأسرة مهاجرة عاشت ظروفا صعبة، لكن حياته في ظل سيطرة هذه الروح عليه جعلته يمنح السعادة للجميع إلا لنفسه، وهو ما لا يجعلك تستغرب أبداً أن تكون كلماته الأخيرة قبل موته بمرض عضال: "لقد تعبت من القتال".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.