يمهد الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، الطريق لتكريس تخلي الدولة عن دعم الخدمات الأساسية للمواطنين، بحجة تخفيف الأعباء المالية على خزانة الدولة.
بعد حديثه أكثر من مرة عن ضرورة تخفيض دعم المنتجات البترولية، وتخفيض عدد الموظفين الحكوميين من 7 ملايين إلى مليون، قال إنّه "من المهم أن يعلم المواطن حجم التحديات التي تواجهها الدولة وحجم المطالب أمامها، وضرورة أن يشرح المسؤول بالأرقام الخدمات التي تقدمها الدولة وما تتطلبه الدولة".
وأشار السيسي، خلال جولته في مدينة السادس من أكتوبر، اليوم السبت، لتدشين عدد من المشروعات، إلى أن "إنتاج 24 مليون متر مكعب من المياه يومياً يكلف الدولة 40 مليون جنيه، ويجب أن ننتبه لأنفسنا كمسؤولين والمصريين جميعاً، من أجل ترشيد الاستهلاك، ولا نقول المياه غالية أو الكهرباء غالية، لأن المواطن يدفع 23 قرشاً إلى 70 قرشاً مقابل خدمة المياه النقية، وهو ما يمثل أقل من ربع تكلفة المياه على الدولة".
ويرى مراقبون أن فتح ملف خدمة المياه ورغبة السيسي في تخفيض الدعم عن خدمة ارتبطت بدعم الدولة منذ بداية تعميمها، ولم يعرفها الشعب المصري إلّا مدعومة، هو مؤشر خطير على الضعف الذي أصبحت تعاني منه موارد مصر المائية، بالتزامن مع هزيمتها التي أصبحت شبه أكيدة في معركة "سد النهضة الأثيوبي". واعتراف نظام السيسي بأن إنشاء هذا السد أصبح حقيقة واقعة وأن إمكانية مشاركة مصر في إدارته والتحكم في كميات المياه التي تضخ منه باتت ضعيفة للغاية.
وتشير الإحصاءات الرقمية، والتي أجرتها وزارة الري المصرية، إلى تأثر مصر المحتمل بسد النهضة، وإلى أن حصة مصر من المياه ستنخفض بواقع 12 مليار متر مكعب لتصل إلى حوالي 35 مليار متر مكعب، وقت ملء خزان السد المقدرة سعته بحوالي 74 مليار متر مكعب، وهذا يعني انخفاض كفاءة شبكة الري والشرب بنحو 30 في المائة، علماً بأن مصر حالياً تعتبر من الدول الفقيرة مائياً، حيث لا تتجاوز حصة الفرد 650 مترا مكعبا سنوياً من المياه، وهو ما يعادل ثلثي المعدل العالمي.
وأزمة نقص المياه المحتومة لا تتوقف عند حد ضعف مياه الشرب، فتقديرات وزارة الري تؤكّد أن كل مليار متر مكعب ستنقص من حصة مصر المائية ستعرضها لفقدان 200 ألف فدان زراعي، في الوقت الذي يحاول فيه السيسي التظاهر بالمضي قدماً في تنفيذ مشروع طموح لزراعة مليون و500 ألف فدان.
واللافت أن مصادر "العربي الجديد" في وزارة الزراعة لم تتمكن من تحديد أماكن مليون و500 ألف فدان حتى الآن، وذلك لصعوبة إيجاد مناطق صالحة للزراعة دون الاحتياج لرافعات مياه جوفية أو شق قنوات وترع جديدة من النيل، وهو ما لن تتمكن من تنفيذه الدولة في ظل سوء الحالة الاقتصادية.
وعلى الرغم من أن عملية الملء التجريبية لخزان سد النهضة لم تبدأ حتى الآن، ويؤكد الجانب المصري ضرورة إشراكه في إدارتها حتى لا تعرض مخزون المياه في بحيرة ناصر جنوب السد العالي للخطر، فإن مصر تتعرض حالياً لأزمة مياه تتمثل في ضعف الإمدادات لمحطات تدوير مياه الشرب الرئيسة، وذلك منذ شهر أغسطس/آب الماضي، والذي كان قد شهد تظاهرات في بعض المناطق نتيجة طول فترة قطع مياه الشرب.
ويفتح هذا الوضع باباً لا يغلق من التكهنات باندلاع ثورة "عطش"، أو تظاهرات غاضبة لعدم تمكن الدولة من تأمين احتياجات مواطنيها من المياه، فضلاً عن بدء تخليها عن دعمها لهذه الخدمة الأساسية، في ظل استمرار ارتفاع قيمة استهلاك الكهرباء، والزيادة المطردة في القيمة السوقية للوقود والسلع.
وبعيداً عن قضية مياه الشرب، وفيما له صلة بملف المياه، فإن انخفاض حصة مصر من المياه تهدد بضعف إنتاج الكهرباء من السد العالي بنسبة تصل إلى 40 في المائة، وهو ما يجعل السيسي يحاول إطالة أمد التفاوض حول طريقة إدارة فترة ملء خزان سد النهضة، حتى تكون المحطات الجديدة التي ستنشئها شركة "سيمنز" الألمانية لتوليد الطاقة الكهربائية قد بدأت في العمل، بالإضافة إلى زيادة أعداد محطات توليد الطاقة الشمسية.
لكن حكومة السيسي تواجه مشاكل عديدة في هذا الملف، نتيجة عدم رضى المستثمرين عن الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد، وضعف إقبالهم على إنشاء مشروعات بتوليد الطاقة، على الرغم من تحديث التشريعات الحاكمة لهذا النشاط، وتخفيض الضرائب والسماح للأجانب بحق الانتفاع بالأراضي، مما يصعّب التكهن بموعد تحقيق انفراجة ملحوظة في ملف الطاقة.