بطاريات راديو السوني

05 يونيو 2014
+ الخط -


كان أول من يخرج إلى بيت الدرج خلال الحرب الأهلية. يسوّي الشرشف على الأرض ثم يجلس عليه بعد أن يضع رِجلاً فوق الأخرى. يرفع هوائي الراديو الأحمر الصغير إلى آخره ويضع الإبرة على إذاعة "صوت الوطن". كان صوت الملاحق الإخبارية المتتالية الصادر من الراديو إشارة للجيران بأن خطر القذائف العشوائية اشتدّ وقد حان وقت خروج الجميع من المنازل.

لم يكن الدرج أكثر أماناً من غرف البيوت، لكن تجمّع الناس يبعث على الراحة. الكثرة تقلّل من حدّة الخطر فتحاول الناس أن تنسى. أو لعلّ ذلك ما تظنّه.

لم يكن يوماً صاحب موقف سياسي قاس. ولم يحب إلا رفيق الحريري الذي كان يغطّي نفقات ابنه المجتهد في "الجامعة الأميركية في بيروت". كان لمجلسه جو من الود والطمأنينة في اللحظات التي يرتفع فيها أسيد المعدة. يحاول بأخبار ونكات لطيفة أن يمتصّ رعد القذائف التي تلاحق الناس إلى غرف نومهم.

في صيف الحرب وشتائها لم يغيّر خصاله. يخرج إلى الدرج، يرمي الشرشف على الأرض، ويمدّ رجليه واحدة فوق الثانية. لم يكن ممكناً لأحد أن يتذكره من دون راديو الـ"سوني" الأحمر وبطاريات الـ"را يو فاك" الصفراء التي كان يستهلكها إلى آخر ذرّة فيها.

لم تنته الحرب لكن الأطفال الذين كانوا يخافونها ويهربون منها إلى الدرج والملجأ ولعب كرة القدم في مدخل البناية كبروا كلّهم. أغلبهم غادر البناية لتأسيس بيوت جديدة. ذهب جيران وجاء جيران جدد. أما هو فتقدّم به العمر. انكمشت قامته الطويلة ولم تبق شعرة سوداء واحدة في رأسه. خسر جسمه التناسق. انتفخ جفناه وخرجت عيناه من محجريهما لشدة هزاله. صار رجلاً آخر. الحياة غريبة وغير مفهومة أحياناً. التقدم في العمر سرّ من أسرارها.

قبل فترة التقينا في مدخل البناية. صعدنا معاً في المصعد. سألني عن الطابق الذي أقصده فأشرت له. ضغط الزر. لم يقل شيئاً طوال صعودنا. عندما توقف المصعد خرجنا معاً. مدّ يده إلى جيبه وسحب تعليقة المفاتيح ثم وضع المفتاح في قفل باب البيت، فتحه ودخل وأقفل الباب بهدوء على عادته.

للمرة الأولى لم يقل كلمة واحدة. وقفت أمام الباب المواجه لباب بيته أتفرّج عليه إلى أن غاب في منزله، ثم دخلت إلى البيت.

لم يعرفني جاري أبو رامز، أنا ابن جيرانه "الباب للباب". ظنني غريباً. لقد فرغت بطاريات راديو الـ"سوني" إلى الأبد.

المساهمون