لعلّ إحدى أبرز بصمات عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما، أنه طوى آخر صفحات الحرب الباردة، مع إعلانه خلال فترته الرئاسية الثانية، إنهاء عزلة كوبا، ومقاربة العلاقات مع هافانا بطريقة مختلفة عن تلك التي انتهجها ساكنو البيت الأبيض على مدى خمسة عقود.
إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الجزيرة الكاريبية الصغيرة، التي تبعد عن الشواطئ الأميركية قرابة التسعين ميلاً (145 كليومتراً)، ورفع بعض العقوبات الاقتصادية التي تدخل ضمن نطاق صلاحيات الرئيس، تطلّب 15 شهراً من العمل بين الجانبين، وإطلاق سجناء بتهم تجسس، يمثلون ميراث الحرب الباردة، بالإضافة إلى وعود أميركا بأنّها لن تنسى "الديمقراطية وحقوق الإنسان"، في مقاربتها الجديدة مع الجزيرة المحكومة بنظام الحزب الواحد.
جاءت المحادثات الأميركية - الكوبية برعاية مباشرة لبابا الفاتيكان فرنسيس، الذي بات يلعب دوراً سياسياً متصاعداً في الفترة الأخيرة، باسم الكنيسة الكاثوليكية، كما فعل في رعاية المحادثات التي أنهت الحرب الأهلية في كولومبيا، بعد التوصّل إلى اتفاقية السلام التي وقعتها الحكومة مع جماعة "فارك" العام الجاري.
في 14 أغسطس/ آب 2015، وخلال زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى هافانا، رُفع العلم الأميركي لأول مرة في الجزيرة الشيوعية منذ خمسة عقود، ليُعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، وتفتتح الولايات المتحدة سفارتها في العاصمة الكوبية لأول مرة منذ 1961، بعد شهر واحد من افتتاح هافانا سفارتها في العاصمة الأميركية.
وتوّج الرئيس الأميركي، رؤيته الجديدة للعلاقات الأميركية – الكوبية، بزيارة تاريخية إلى هافانا، في 20 مارس/ آذار 2016، هي الأولى لرئيس أميركي للجزيرة، منذ 88 سنة، حين زار الرئيس الأميركي كالفين كوليدج كوبا في 1928.
ولم تُحسب في هذا السياق، زيارة الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر لهافانا في 2011، بعد أن غادر البيت الأبيض بقرابة الثلاثة عقود (تولى الرئاسة ما بين 1977 و1981).
أزمة العلاقات الأميركية – الكوبية تتعلّق بالتاريخ، وحقبة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، أكثر من الحاضر. والمفارقة هنا أن تكون كوبا، الأقرب جغرافياً مع الولايات المتحدة، هي آخر الدول الشيوعية التي طبّعت واشنطن العلاقات الدبلوماسية معها، بعد الصين وفيتنام.
بدأت أزمات واشنطن مع كوبا، بانقلاب الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو في 1959، على الحكم العسكري المدعوم أميركياً لفولغينسيو باتيستا. ثم بدأت العلاقات العدائية بين الجانبين، بعد غزوة خليج الخنازير، في 1961، عندما قام معارضون كوبيون بمحاولة الاستيلاء على السلطة في كوبا، والانقلاب على فيديل كاسترو، بدعم الاستخبارات المركزية الأميركية، العملية التي فشلت فشلاً ذريعاً، وانتهت بأسر أغلب المعارضين الكوبيين.
الرد الكوبي كان صاخباً، وذلك عندما سمحت هافانا للاتحاد السوفييتي في 1962، باتخاذ الجزيرة كمنصة صواريخ نووية سوفييتية، تهدد الأراضي الأميركية بشكل مباشر، رداً على تحركات أميركية مشابهة في أوروبا. وكادت "أزمة الصواريخ الكوبية" أن تتسبّب بحرب نووية، لكن سرعان ما تم احتواء الأزمة، وفككّ الاتحاد السوفييتي منصات الصواريخ التي زوّدت بها الجزيرة.
على مدار عقود كانت المعركة الأميركية مع كوبا جزءاً من احتواء التهديد الشيوعي، في مقابل أنّ هافانا رأت في الولايات المتحدة تهديداً مباشراً لنظامها الشيوعي، من خلال استقبال ودعم المعارضين لفيديل كاسترو، الذي تخلّى عن الحكم لشقيقه راؤول في 2008، المنتخب رئيساً للبلاد، في انتخابات داخل البرلمان، كان هو مرشحها الوحيد.
علّل أوباما، مقاربته الجديدة لكوبا، بأنّ "خمسة عقود من العزلة لم تحقّق المصالح الأميركية هناك"، معتبراً أنّ الوقت قد حان لمقاربة العلاقات الأميركية الكوبية بطريقة جديدة "تخدم المصالح الأميركية"، وذلك من خلال "تطبيع العلاقات بين البلدين"، لمحاولة تحقيق ما لم تحققه سنوات العزلة.
اتخذ أوباما عدة خطوات أساسية تجاه كوبا في السنتين الأخيرتين من فترته الرئاسية الثانية، تمثّلت في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ورفع العقوبات الاقتصادية التي تقع ضمن صلاحيات الرئيس (الرفع الكامل يتطلّب موافقة الكونغرس)، وإنهاء تصنيف كوبا كدولة راعية للإرهاب، بالإضافة إلى إتاحة المجال أمام التعاون المعلوماتي بين الجانبين، والانفتاح الاقتصادي على الجزيرة الكاريبية.
وأكد أوباما على خمس أولويات في سياق انفتاح الولايات المتحدة على هافانا، تتمثّل في قضايا الصحة والهجرة ومكافحة المخدرات ومحاربة الإرهاب والاستجابة للكوارث الطبيعية، مشدداً على أهمية "لمّ شمل العائلات الكوبية"، المنقسمة على جانبي الحدود، بعد هجرة مئات الآلاف من الكوبيين إلى الولايات المتحدة.
كانت معارضة الكونغرس الأميركي، الذي تسيطر عليه غالبية من الحزب الجمهوري، لسياسات الرئيس الأميركي تجاه كوبا، أبرز معوقات رفع العقوبات الأميركية بشكل كامل عن هافانا.
ويعني امتناع الولايات المتحدة عن التصويت (مع إسرائيل) على مواصلة العقوبات الدولية على كوبا في الأمم المتحدة، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أنّ أوباما يسلّم مسألة الرفع الكامل للعقوبات عن كوبا إلى يد الرئيس الأميركي القادم، وأعضاء الكونغرس، والذي سينتخب نصف أعضاءه مع الانتخابات الرئاسية في البلاد، في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
ومن المتوقع أن تواصل مرشحة الحزب الديمقراطية هيلاري كلينتون، سياسات الرئيس الأميركية الجديدة تجاه كوبا، في الوقت الذي سيتفق فيه المرشح الجمهوري دونالد ترامب، مع توجهات حزبه الرافضة لتطبيع العلاقات مع هافانا.
من جهته، وعد الرئيس الكوبي راؤول كاسترو، عندما انتخب رئيساً للبلاد في 2008، بتغيير النهج الاقتصادي الذي تتبعه كوبا، لذا كان الانفتاح الاقتصادي (لا السياسي) على الولايات المتحدة، إحدى الخطوات التي احتاجها لتحديث دولة بقيت لعقود خارج سياق التطورات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية.
ولا يخفي الرئيس الكوبي اليوم خيبة أمله، بعد تطبيع العلاقات مع واشنطن، من عدم رفع العقوبات بشكل كامل عن بلاده، وهي خطوة سيحدّد مصيرها الرئيس الأميركي القادم، وتوازنات الكونغرس.