ما زال مسؤولون ألمان كثيرون يفترضون وجود إمكانية لتسوية ما أو حتى استفتاء ثان يكون بمثابة مخرج يريح البريطانيين من تبعات "بريكست". يأتي ذلك في حين يُسجّل ارتفاع في عدد مواطني المملكة المتحدة الراغبين في الجنسية الألمانية
في الثالث والعشرين من يونيو/حزيران 2016، صوّت البريطانيون لمصلحة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي "بريكست". ومنذ ذلك التاريخ، يحاولون الحدّ من تداعيات ذلك الاستفتاء، فتاريخ التاسع والعشرين من مارس/آذار 2019، موعد خروج بلدهم رسمياً من الاتحاد، سوف يكون نقطة تحوّل في حياة هذا الشعب. ويعود ذلك إلى تصويت السكان من كبار السنّ لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد، هم الذين لا يملكون أدنى فكرة عن الاقتصاد المعَولم، ولا معرفة حقيقية حول أهمية الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى بلدهم، في حين أنّ اهتمامهم منصبّ فقط على المجتمع والسياسة البريطانيَين.
إزاء ذلك، يحاول آلاف البريطانيين ترتيب أمورهم في خارجها، لا سيّما في ما يخصّ الوظائف، في حين ازداد اهتمامهم بالحصول على جنسيات أوروبية، لعلّ الألمانية في مقدّمتها، وفق ما تبيّن تحقيقات عدّة في ألمانيا وأوروبا عموماً. وفي ضوء حاجة برلين إلى عمّال مهرة، فإنّ السلطات في البلاد تدرس إمكانية جعل فرص تجنيس البريطانيين أسهل، بعدما باتوا اليوم أكثر رغبة في أن يصيروا ألماناً.
وتتّجه الحكومة إلى تعديل شروط حصول هؤلاء على الجنسية الألمانية، بناءً على مشروع لوزارة الخارجية الاتحادية. ومن المتوقع أن تصوّت الحكومة قريباً لمصلحة قانون من هذا النوع، بحسب ما ذكرت وكالة "بلومبرغ" الإخبارية أخيراً. يُذكر أنّ المستشارة أنجيلا ميركل لفتت أخيراً إلى أنّ ألمانيا تعاني نقصاً في العمّال المهرة، وهذه أكبر مشكلة لتنمية الاقتصاد الألماني، موضحة أنّ مصدر المتخصصين المطلوبين مهمّ جداً. والقانون الحالي ينصّ صراحة على شروط معيّنة، منها أن يملك طالب الجنسية الألمانية عقد عمل بدوام كامل، وقد سبق وعاش في ألمانيا لمدّة ثمانية أعوام، مع تصريح إقامة في كثير من الحالات، بالإضافة إلى غيرها من الشروط المتعلقة بإتقان اللغة وأمور أخرى. تجدر الإشارة إلى أنّ القانون يسمح لمواطني الاتحاد الأوروبي بعدم التخلي عن جنسيتهم الأصلية.
تفيد الأرقام بأنّ الجنسية الألمانية لم تكن قبل الاستفتاء محطّ اهتمام للبريطاني المقيم في البلاد. وفي ولاية بافاريا، على سبيل المثال، والتي تُعدّ من أغنى الولايات الألمانية وأكبرها، لم يتجاوز عدد الذين حصلوا على الجنسية بين عام 2010 وعام 2014 عشرة أشخاص، بينما ارتفع في عام 2015 إلى 25 شخصاً. أمّا في عام 2016، فقد ازداد العدد بنسبة 152 في المائة. وفي العام الجاري، ثمّة آلاف من الرعايا البريطانيين الذين تقدّموا للحصول على الجنسية الألمانية في الولايات الألمانية الستّ عشرة، في مؤشّر إلى الخوف الذي ينتاب البريطاني إزاء مصيره بعد "بريكست". وكانت صحيفة "راينشه بوست" الألمانية قد ذكرت أخيراً أنّ 622 بريطانياً تقدّموا في عام 2015 للحصول على الجنسية، بينما تضاعف العدد بحلول نهاية عام 2017 ليصل إلى سبعة آلاف و493 بريطانياً مقيماً في البلاد.
من جهتها، أفادت أرقام مكتب الإحصاء الاتحادي، خلال شهر مايو/أيار الماضي، بأنّه خلال العامَين الأخيرين، 2016 و2017، حصل 10 آلاف و358 مواطناً بريطانياً على الجنسية الألمانية، وهذا العدد يتجاوز ضعفَي ما كان عليه خلال 15 عاماً بين عام 2000 وعام 2015.
وتشير تحقيقات إلى أنّ عدد البريطانيين الذين ينوون مغادرة بلدهم قبل مارس/آذار 2019 في ازدياد مستمر، وعشرات الآلاف منهم يرغبون في الانتقال إلى ألمانيا والاستقرار فيها، ومن بين هؤلاء من لهم جذور ألمانية. وفي هذا الإطار، ذكرت "راينشه بوست" أنّه وفقاً لتطبيق "ستب ستون" الإلكتروني الخاص بفرص العمل، ما زال 600 ألف بريطاني على استعداد للهجرة من المملكة المتحدة، 44 في المائة منهم، أي ما يعادل 264 ألفاً، كانت ألمانيا خيارهم الأوّل.
وعن الأسباب التي تدفع البريطاني إلى التفكير في بلد مثل ألمانيا، يرجّح أساتذة في علم الاقتصاد والاجتماع أن يكون قطاع الخدمات في مقدّمتها، لا سيّما وأنّ مركز لندن المالي وكذلك الاقتصاد الرقمي في البلاد هما الخاسران الأكبران من الخروج من الاتحاد الأوروبي، فتتحوّل الأنظار إلى فرانكفورت العاصمة الاقتصادية لألمانيا، الأمر الذي يشكّل ضربة للصناعة المالية البريطانية. ويتحدّث هؤلاء عن أهمية الاستقرار بالنسبة إلى المواطن البريطاني، وعن كون ألمانيا صاحبة أقوى اقتصاد في أوروبا وتشتمل على امتيازات عدّة وعلى فرص عمل لأصحاب الكفاءات، في حين أنّ شروط الإقامة سهلة نوعاً ما. يضيفون إلى ذلك خوف البريطاني على تقاعده، ومن عدم السماح له بالتنقل بحرية ضمن دول الاتحاد الأوروبي أو قيادة سيارة إلا في حال كان حاصلاً على شهادة قيادة من دول الاتحاد أو أخرى دولية.
في سياق متصل، يرى أكاديميون أنه بعد "بريكست"، لن تعود المملكة المتحدة جزءاً من برنامج التبادل الطالبي "إيراسموس"، وعليه سوف يتوجّب على مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يرغبون في الدراسة في المملكة مستقبلاً الاستعداد لتسديد رسوم تعليم عال مرتفعة. بالتالي، سوف يضطر البريطانيون العاملون في مجال الأبحاث إلى مواجهة هذا الواقع المستجد مع شكاوى متزايدة، لأنّ زملاءهم في دول الاتحاد الأوروبي سوف يبدون اهتماماً أقلّ بالتعاون معهم، انطلاقاً من أنّ مؤسسات الأبحاث في المملكة المتحدة لن تتمكن مستقبلاً من الوصول إلى برامج الاتحاد. يُذكر أنّ مؤسسات الأبحاث في بريطانيا تُعَدّ من أكبر المستفيدين من تمويل الأبحاث في الاتحاد الأوروبي. كذلك، ثمّة خشية لدى المواطن البريطاني من أن يصير عرضة للتدقيق عند الحدود مع دول الاتحاد، بالإضافة إلى إمكانية فقدانه الوصول إلى حساباته المصرفية وسياسات التأمين التي كان يتمتّع بها نتيجة وجوده في التكتل الأوروبي.
أمام هذا الواقع، أسئلة كثيرة تطرح، حول كيفية استمرار حرية الحركة مع الدول الأوروبية الأخرى، وحول الاعتراف بالمؤهلات العلمية المهنية لاحقاً، وحول السماح لأفراد العائلة الواحدة بالالتحاق ببعضهم البعض وحول حق الإقامة. واليوم، كلّ الضمانات اختيارية إنّما غير قانونية للبريطانيين، حتى بالنسبة إلى الذين يعيشون في ألمانيا.