يثير النقاش الذي أطلقه الأسبوع الماضي الصحافي يغئال سارينا في إسرائيل، عندما كشف أن مجزرة قانا خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 1996 لم تكن بالضرورة ناجمة عن خطأ، أسئلة جديدة ينبغي طرحها مع كل ما يترتب عليها من تداعيات تتعلق بحقيقة ما حدث في قانا. ويتصل ذلك أيضاً بالمسؤولية الجنائية عن المجزرة المذكورة، وخصوصاً دور شمعون بيريز، الذي كان رئيساً للحكومة الإسرائيلية ووزير أمنها.
فقد أظهر التقرير الذي نشره سارينا، أن ما حدث في قانا لم يكن بالضرورة ناجماً "عن خطأ أو خلل" حسبما ادعت إسرائيل، وإنما على ما يبدو كان هجوماً مقصوداً هدفه إنقاذ فرقة وزير الاقتصاد الحالي، نفتالي بينت، الذي كان يومها على رأس قوة تابعة لوحدة النخبة "ماجلان".
ووفقاً للتقرير الإسرائيلي، فإن الوحدة التي ترأسها بينت، نشطت داخل العمق اللبناني مع بدء العدوان، وتم اكتشاف أثرها من قِبل المقاومة اللبنانية التي أمطرتها بالنيران. واضطر بينت إلى طلب المساعدة، لكن صوته، جاء عبر شبكة الاتصالات العسكرية، بحسب الصحافي رافيف دروكر، هيستيرياً للغاية وزاد من الاضطراب داخل قيادة الجيش، التي أمرت بإمطار المنطقة المحيطة بنيران المدفعية الثقيلة.
وسبّبت النيران الكثيفة التي أطلقها جيش الاحتلال هلعاً كبيراً في صفوف اللاجئين الفلسطينيين الذين فرّوا إلى قاعدة القوات الدولية في المكان، لكن النيران الثقيلة قتلت أكثر من 102 من اللاجئين الفلسطينيين.
وعلى الرغم من الإدانات الدولية، تمكنت إسرائيل من التهرّب من العقاب بعد أن استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) لإحباط قرار إدانة دولي. وبما أن إسرائيل كانت في أوج معركة انتخابية بين بيريز (الذي حظي بدعم أميركي) ورئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، فقد اكتفت إسرائيل بالإعراب عن أسفها من دون الاعتذار، وأخفت حقيقة وجود بروتوكول "هانيبال" الذي يطلب توجيه نيران ثقيلة وفعل كل ما يلزم لمنع سقوط جنود إسرائيليين في الأسر.
ظل موضوع قانا مجرد مذبحة إضافية ترتكبها القوات الإسرائيلية من دون التركيز أو الإشارة إلى وجدود نية مبيّتة عند ارتكاب المذبحة، لإعطاء الأولوية لإنقاذ قوة إسرائيلية مهما كلف الثمن، إلى أن تفجّرت القضية مجدداً، بعد أن " تطوّع" بينت، (رئيس القوة المذكورة التي يبدو أنها حوصرت وكانت على ما يبدو على وشك الوقوع في الأسر) الأسبوع الماضي إلى الدفاع عن جنود وحدة "جفعاتي" وجرائمهم في الحرب الأخيرة على غزة.
وكان بينت قد دعا إلى منح جنود الوحدة، الذين سببوا مجزرة رفح في الأول من أغسطس/آب الماضي، بعد سقوط الضابط الإسرائيلي في أسر المقاومة الفلسطينية في القطاع، وقيام الجيش الإسرائيلي بقصف رفح بوحشية كبيرة، براً وجواً وبحراً، مما أسقط أكثر من 130 شهيداً فلسطينياً.
وكشفت الصحف الإسرائيلية أن دفاع بينت لم يكن عفوياً، فقد اتضح أن قائد قوات جولاني، عوفر فينتور، الذي شارك في المجزرة مع قواته، كان متورطاً هو الآخر في عدوان "عناقيد الغضب" (عدوان 1996)، بل إنه كان على رأس قوة عسكرية إسرائيلية تمركزت إلى الجنوب من موقع القوة التي ترأسها بينت.
وكان بينت قد أقرّ خلال التحقيقات العسكرية التي أجراها الجيش بعد مذبحة قانا، بأن العقيد فينتور كان في المكان وأنه شارك في المعارك التي دارت في محيط قانا.
ولعل ما يلفت النظر أن فتح ملف قانا بالتوازي مع مطالبة بينت بعدم محاكمة جنود "جفعاتي"، ومنحهم بدلاً من ذلك أوسمة البطولة، يشير ولو من بعيد إلى احتمال كون مجزرة قانا، خلافاً للادعاءات الإسرائيلية، قد ارتُكبت عن سابق إصرار.
فخلافاً للانطباع العام بأن "بروتوكول هانيبال" أُدخل إلى الجيش الإسرائيلي فقط في العام 2001، تبين اليوم أنه تم وضع هذا البروتوكول وصياغته منذ إبرام صفقة الأسرى الأولى بين إسرائيل و"الجبهة الشعبية القيادة العامة" بقيادة أحمد جبريل في العام 1985.
وتمت صياغة البروتوكول المذكور رسمياً عام 1986 من قِبل لجنة كان فيها كل من الجنرال المتقاعد أوري أور، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق غادي أشكناي، وقائد المنطقة الشمالية في الجيش عمرام ليفين، ورئيس مجلس الأمن القومي سابقاً الجنرال احتياط يعقوف عامي درور.
وصيغت نصوص بروتوكول "هانيبال" رسمياً منذ ذلك الوقت وجرى تعميمه على الجنود خلال حالات الحرب، على الرغم من أنه كان معمولاً به خلال الحرب الأولى على لبنان، وإن كان بشكل أوامر شفهية وغير مكتوبة.
وقد ظل أمر هذا البروتوكول غير معلن في وسائل الإعلام وغير معروف إسرائيلياً، سوى للجنود النظاميين في الوحدات القتالية وقيادات الجيش العليا، إلى أن وقعت مجزرة رفح في الأول من سبتمبر/أيلول الماضي.
وجاء الكشف عنه وتفعيله في سياق سعي القيادات العسكرية والسياسية والإعلام الإسرائيلي للدفاع عن جنود وحدة "جفعاتي"، وتوفير غطاء قانوني لهم، يحميهم من القانون الدولي.
فقد ادعت قيادة الجيش الإسرائيلي أن القصف المدفعي والجوي ومن البحر لرفح كان جزءاً من البروتوكول الخاص بمنع عمليات الاختطاف وإفشالها، ولو كلّف ذلك موت الجندي المخطوف. واستطاعت إسرائيل ووسائل الإعلام حرف النقاش عن المذبحة البشعة في رفح إلى مسألة تنفيذ الأوامر العسكرية، تماماً مثلما استغلت قبل 18 عاماً المذبحة في قانا عام 1996 للتحريض ضد المقاومة اللبنانية والادعاء بأن إسرائيل كانت تدافع عن مستوطناتها الجنوبية وهي تأسف لوقوع الضحايا لكنها لا تعتذر.
واليوم فإن قضية بينت، وتعريض نفسه للمساءلة مقابل "ترك جنود جفعاتي ومنحهم أوسمة البطولة"، تثير من جديد أو يفترض فيها أن تفعل ذلك على الأقل، السؤال عما إذا كان ارتكاب المذبحة تم بالأساس لتفعيل بروتوكول "هانيبال" وإنقاذ قوة إسرائيلية، وليس مجرد "خطأ" كما ادعت إسرائيل وبيريز؟