بروباغندا النظام السوري وسرياليّته: كأن حرباً لم تكن

25 نوفمبر 2016
النظام يرقص على جثث أهالي حلب (فرانس برس)
+ الخط -
عند تمام الساعة الثالثة عصراً من الثلاثاء (22-11-2016)، وفيما كان تلفزيون النظام الرسمي، يبث على الهواء مباشرة، برنامج "حديث الناس" الذي كان يناقش "السلامة المهنية وإدارة المخاطر" في المؤسسات، ظَهَرَ خبرٌ عاجلٌ أسفل الشاشة، صادرٌ عن "القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة"، تدعو فيه "جميع المواطنين الراغبين بالمشاركة في إنجاز الانتصار النهائي على الإرهاب، إلى مراجعة مراكز الاستقبال في قيادات المناطق العسكرية بالمحافظات".
أتى ذلك، مع مزاعم تشكيل النظام لـ"الفيلق الخامس اقتحام (من المتطوعين)"، رغم أن فيالق قوات النظام الأربعة لم تَعُد مكتملة، بعد تناقص أعداد العناصر بصورة قياسية، نتيجة المعارك والانشقاقات، وتعاني نزفاً بشرياً حاداً، أقر به رئيس النظام بشار الأسد قبل أشهر.
لكن إعلان تأسيس "الفيلق الخامس" بطبيعة الحال، وبالنسبة لجمهور واسع من السوريين، لم يشكل مفارقة كبيرة، لنظام اعتاد عبر إعلامه الموجه، إظهار صورةٍ مغايرة كلياً، لواقع البلاد منذ نحو ثمانية وستين شهراً. لكنّ المفارقة تكمن في أنّ ساعة بثّ الخبر العاجل الذي يطلب فيه النظام ضمناً من "المواطنين" ضرورة التطوع في الجيش "النازف" لمحاربة خصومه، تزامنت مع افتتاح فعاليةٍ وُصِفت بالـ"سُريالية"، تحت عنوان "حلب عاصمة للسينما السورية" إذ ترعاها وزارتا الثقافة والسياحة في حكومة النظام. وتقام فعاليتها على بعد مئات الأمتار فقط، من أحياء مدينة حلب الشرقية التي تشهد مجازر يومية، ربما هي الأكثر دموية في العالم هذه الأيام.
هذه الفعالية التي أعلن النظام عبر إعلامه الرسمي، أنها ستتضمن خلال أسبوع عرض أفلامٍ سينمائية مع "تكريم لعدد من الشخصيات، التي تركت أثراً في تاريخ الفن السابع في سورية"، واعتبرت وكالة "سانا" الحكومية أنها تأتي لـ"دعم صمود مدينة حلب وإعادة الألق إليها"، أثارت زوبعة ردود أفعال ساخطة ومستاءة، لشريحة واسعة من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي. إذ وصفها بعضهم بالـ "رقص ببرود على مشاهد دماء الضحايا". وعبر آخر عن فجاجة المشهد المتناقض بكون النظام حول "غرب حلب عاصمة للسينما، وشرقها عاصمة للجحيم". فيما اعتبرت الإعلامية السورية مها الخطيب عبر تغريدة على حسابها في "تويتر" أن "وقاحة النظام السوري تعدت كل وصف".
وضاعف موجة ردود الأفعال الغاضبة هذه، أن المناطق الواسعة التي تسيطر عليها المعارضة السورية شرقي حلب، تعيش منذ الأسبوع الماضي، تحت وابلٍ من حمم قذائف المدفعية وصواريخ الطيران الحربي وبراميل مروحيات النظام، الأمر الذي أدى لمقتل نحو 350 شخصاً خلال الأسبوع الأخير فقط في حلب التي باتت محط اهتمام أنظار معظم السوريين، وغالبية وسائل الإعلام العربية، وكذلك الإقليمية والغربية، والتي تهتم بتغطية المجازر اليومية، والتطورات المأساوية هناك، فيما تروج حكومة النظام لصورة أن المدينة تعيش حياة طبيعية تزدهر فيها أنشطة الثقافة والفنون.




ويبدو واضحاً أن حكومة النظام زادت خلال الأسابيع القليلة الماضية، من نشاطاتٍ مماثلة في مناطق سيطرتها، إن كان في دمشق أو اللاذقية أو غربي حلب. فمنذ أسبوع اختُتِم "أسبوع الموضة في اللاذقية" الذي رعته وزارة السياحة، وتضمن عروضا للأزياء، غطتها وسائل إعلام النظام الرسمية والمقربة منه، بما يوحي بأنها أرادت تسليط الضوء على نطاق واسع لهذه الفعالية التي أقيمت على بُعد كيلومتراتٍ قليلة، من "قاعدة حميميم الجوية" التي تقع جنوبي اللاذقية، وتنطلق منها الطائرات الروسية لتصويب صواريخها نحو أحياءٍ سكنية ومرافق مدنية تقع ضمن مناطق سيطرة المعارضة، في مناطق عدة، أبرزها محافظة إدلب، وشمالي حمص وحماه، وشرقي مدينة حلب وريفها، وبلدات وقرى غوطة دمشق.
وما يُدلل بوضوحٍ على وجود خطة ممنهجة لدى النظام، لتكثيف تنظيم هذه النشاطات في الفترة الماضية، هو أن وزارة السياحة في حكومته كانت قد روجت عبر وسائل التواصل الإجتماعي بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لفيديو سمتهُ "حلب إرادة الحياة.. Aleppo Will of Life". وكَرَّرت الوزارة (عَبَرَ صورٍ تم التقاطها جواً) مَشاهدَ تَظهرُ فيها معالم أثرية وحدائق وفنادق في غربي حلب، مُركزةً على تركِ انطباعٍ لدى المشاهدين، بأن المدينة تعيش حياة طبيعية للغاية، فيما تجاهل الفيديو تماماً، عرض أي مشهدٍ من مناطق أخرى، باتت مدمرة داخل حلب ذاتها، وتبعُدُ عن تلك التي عرضها الفيديو مئات الأمتار فقط.
والفيديو المذكور، جاء بالتزامن تقريباً مع مهرجان "هناك ما يستحق الحياة في حلب"، وكانت دعت إليه وزارة السياحة في حكومة النظام، بعد فترة وجيزة من عرض وكالة "سانا" لفيديو آخر، يصور أن "حلب مدينة حياة ليلية". وكلها "بروباغندا" كما وصفها البعض، روجت لها حكومة النظام بالتزامن مع أبشع وأشرس حملات القصف الجوي والمدفعي التي تشنها قوات النظام والطائرات الروسية، على مناطق سيطرة المعارضة شرقي مدينة حلب ذاتها، والتي يسيطر النظام على الشطر الغربي منها.



في نفس السياق، كان محافظ دمشق، بشر الصبان، رعا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تدشين مجموعة "شباب دمشق التطوعي" (المدعومة من الحكومة) لصرحٍ "أحب دمشق" ضمن ما شابه بحسب مشاركين "مهرجان ألوان" بالتزامن مع "اليوم العالمي للابتسامة". إذ انطلق عشرات المشاركين من أمام مدينة الجلاء الرياضية على أوتستراد المزة بدمشق، نحو ساحة الأمويين، حيث مقر وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامة لقوات النظام، ومقر التلفزيون الرسمي، لينشروا مساء ذلك اليوم عبر منصات وسائل إعلام موالية للأسد، عشرات الصور والمشاهد، التي توحي بأن البلاد تعيش بِوافرٍ من الرخاء الاقتصادي والأمني.
ولم تقتصر ردود الأفعال الغاضبة من إقامة نشاطات كهذه في ظل الظروف المأساوية للسكان في مختلف مناطق سورية، على جمهور المعارضة أو المحايدين، بل تعدتها (كما أظهرت مواقع التواصل الإجتماعي) لشريحة واسعة من الحاضنة الأكثر تأييداً للنظام. إذ من المعلوم أنّ عشرات الأسر الموالية للأسد تفقد شهرياً أبناءها المتطوعين أو المجندين في أجهزة الأمن وقوات النظام.
لكن، ورغم ذلك، ظهرت دعواتٌ من موالين آخرين، منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبعد فعالية "أحبُ دمشقَ" تنادي لتنظيم مهرجان "يلا نرقص يا شام"، حيث سارعت مؤسسات اقتصادية من القطاع الخاص، ومقربة، أو مملوكة، لشخصيات من النظام، لتبني ودعم الفكرة التي لم تُنفذ لاحقاً.
ومع تزايد تنظيم حكومة النظام لفعالياتٍ ونشاطاتٍ سياحية في الفترة الأخيرة، يعتقد بعض المراقبين والمختصين، أن الهدف الأول والأخير منها "إعلامي بحت" كما عبر عن ذلك خبير تسويق الحملات الإعلامية على مواقع التواصل الإجتماعي أنس الحمصي.
ويقول الحمصي في حوارٍ لـ"العربي الجديد"، إن "النظام بالمحصلة لا يكترث إلا بالحد الأدنى للرأي العام في سورية، وهذا يتجلى في حملات التعبئة والحشد الإعلامي لجمهور مؤيديه فقط". أما عن "المهرجانات السياحية المتناقضة مع الواقع، والتي تنظمها وزارة سياحة النظام، فإن هدفها هو الجمهور الخارجي، وتحديداً الرأي العام والحكومات الغربية"، مُدللاً على ذلك، بأن حملة "حلب مدينة حياة ليلية" مثلاً، لم تروجها وسائل إعلام النظام الناطقة باللغة العربية، بل نشرتها المُعرفات الإنكليزية فقط لوكالة "سانا".
ويرى الحمصي الذي عمل في مؤسسات إعلامية لسنوات، أن "النظام يطمح من خلال هذه الحملات، لتتميط صورته، كمُسيطرٍ على مناطقه تماماً أمنياً وثقافياً، وحكومته تشجع، بل ترعى وتنظم، فعاليات ونشاطات، تُظهر هذه المناطق بأنها مُنفتحة على نمط الحياة الغربية، بعكس المناطق الخارجة عن سيطرته، والتي تغلب فيها مشاهد القصف والدماء والدمار، والفوضى أمنياً وإيديولوجياً".

دلالات