برلمان الرئيس في مصر

25 أكتوبر 2015
+ الخط -
اغتنم عبد الفتاح السيسي لحظة غضب شعبي من أداء الإسلاميين في الحكم، ليحوّل وأعوانه حالة الاحتجاج السلمي للناس إلى حركة تمرد، رفدها الجيش، وانتهت بإزاحة أول رئيس منتخب في تاريخ مصر. ثم جرى، في أسابيع، الارتداد عن مسار الانتقال الديمقراطي والتأسيس لنظام حكم عسكري. وقدم السيسي نفسه للمصريين صاحب الرأي السديد والحكم الرشيد، وغايته إسعاد الناس وإنقاذ البلاد من مهاوي التفكك ومخاطر الفتنة، وانصرف يملي الأحكام ويصدر المراسيم، ويترصد الخصوم ويتوعد الأقارب قبل الأباعد، ويتندّر، من حين إلى آخر، بأموال الخليج السخية التي شدت من أزره، ووطدت أركان حكمه.
وجدّ "رجل مصر القوي" في محاصرة خصومه وملاحقة معارضيه، حتى أنهكهم أو أهلكهم أو وزعهم بين السجون والمنافي، فتصدرت مصر قائمة الدول التي لها أكبر عدد من سجناء الرأي، وأكبر عدد من المختفين قسرياً. وآل الخطاب السياسي إلى التنميط، والخطاب الإعلامي إلى التمجيد. وظن مراقبون، في الداخل والخارج، أن الناس دانوا للحاكم الجديد، وأن صوت المعارضة خفت، وأن مصر تفادت ما تسمى محنة الربيع العربي، وتعافت من "غوائل الحرية والتعددية"، وسلكت مسلك الاصطفاف خلف الزعيم الجديد "الملهم"، خصوصاً أنه وعد الناس بإصلاح شامل وباستقرار مهيب، ورخاء غير مسبوق، ونماء لا عهد لهم به. وبعد عامين من الانقلاب العسكري، بان لجمهور المحكومين أن المسافة بين الوعد والإنجاز كبيرة، وأن الفجوة بين الموجود والمنشود واسعة. فالواقع أن 40% من اقتصاد البلاد في قبضة الجيش، وأن حركة الاستثمار الخارجي في تراجع، وأن قيمة الجنيه المصري تتدهور، واحتياطي البلاد من العملة الصعبة يشارف على النفاد، ومعدل البطالة العام مقدر بـ 12%، بل بـ 35% بين الشباب وأصحاب الشهادات العليا. وفي المقابل، تراجعت الصادرات 28%، واستفحل الفقر، وارتفع الدين الخارجي ليتجاوز 48 مليار دولار نهاية يونيو/حزيران 2015. وبدا للعموم أن الفساد استشرى في أجهزة الحكومة نفسها، وأن الرؤية الاقتصادية الاستراتيجية غائبة أو تكاد، وأن الحديث عن إحداث مليون وحدة سكنية، وعن مد شبكة للطرق السيارة، وإنشاء عاصمة اقتصادية جديدة، وعود وردية.

وأمام تأزم الواقع الاقتصادي، وانسداد الأفق السياسي، وتآكل شرعية النظام، جنح السيسي وأعوانه إلى دعوة الناس إلى انتخاب برلمان جديد. ومن المفارقات، أن أغلب أعضاء مجلس النواب المرتقب لم يقدموا أنفسهم صوت المفقرين والمهمشين والمظلومين، بل باعتبارهم سنداً للنظام الحاكم، ووعدوا بتأييد السيسي، وأعلنوا له الولاء، تصريحاً أو تلميحاً، ما يخبر أننا إزاء برلمان لن يضطلع فيه النواب بوظيفة الرقابة على السلطة التنفيذية، بل سيضطلعون، أساساً، بوظيفة تزكية الحاكم وإضفاء الشرعية على مئات المراسيم التي سنّها السيسي، في غياب سلطة تشريعية، وبدا أن أغلب النواب من أنصار نظام حسني مبارك الذين ترشحوا في انتخابات سنة 2010، ومن المنتمين إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية.
ومع أن الاستحقاق البرلماني محكوم بلون واحد، ومشدود إلى وجوه حقبة ما قبل الثورة، في ظل إقصاء "الإخوان المسلمين" ومقاطعة حركة 6 أبريل وحزب مصر القوية وحزب غد الثورة وحزب الوسط…، فإن أنصار العسكر شُبّه لهم، في البداية، أن الناس سيتهافتون على صناديق الاقتراع، وسيصوتون للدولة الأحادية بكثافة، لكن صدمة هؤلاء وغيرهم كانت كبيرة، عندما شاهدوا، على شاشات التلفزيون المصري، مراكز الاقتراع خاوية، وعندما لاحظوا إقبال شيوخ ونساء على الانتخاب في مقابل غياب شبه كامل للشباب الذين يزيدون عن نصف مجموع السكان. وعلى الرغم من حملات الترغيب والترهيب، وانطلاق الأذرع الإعلامية للنظام في التحشيد والتقريع، والتفزيع والتنفير، طمعاً في دفع المصريين إلى التوجه نحو الاقتراع، فإن الحضور كان باهتاً، ونسبة المشاركة ضعيفة جداً. والظاهر أن أغلب المقاطعين فطنوا إلى أن البرلمان المزمع انتخابه ما هو إلا محاولة لإضفاء الشرعية على الانقلاب، ولإقرار قوانين جائرة سنها السيسي. والثابت مما تقدم أن النظام الحاكم في مصر فشل في تقديم بديل سياسي/اقتصادي ناجع، يحل محل الفراغ الناجم على إسقاط حكم الإخوان المسلمين بالقوة، كما فشل النظام في كسب ثقة الناس، وفي إضفاء الشرعية على الانقلاب. وإنشاء برلمان للرئيس لن يزيد الوضع إلا تعقيداً، ولن يزيد الصورة إلا تشويهاً، ولن يزيد المشهد إلا ركاكةً وتخلفاً.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.