برقيات من حلب

29 نوفمبر 2016
الحرب كشفت أبشع ما في النظام(كرم المصري/فرانس برس)
+ الخط -
خلال خمسة أيام أصبحت رجلاً. خرجت لأشتري الدواء لوالدي وحين عدت وجدته قد فارق الحياة بعدما سقطت قذيفة على بيتنا. وفي اليوم الثاني، حاولنا الانتقال إلى منطقة أخرى أقل خطراً، ولكن طيران النظام رمانا بالبراميل، فماتت أمي وشقيقي الصغير، بقيت ومعي شقيقاتي الثلاث.

بتنا ليلتنا عند عائلة لا نعرفها ولم نستطع الخروج إلا بعد يومين، وحين حاولنا الهرب من منطقة الاشتباكات أضعت شقيقاتي الثلاث، ولم أجد أمامي غير حمل السلاح وعمري لم يبلغ 15 عاماً، وهنا كان الإحساس الوحيد الذي شعرت به هو أني كبرت عشرين عاماً في خمسة أيام.

تجربة الحرب خطيرة جداً، حين حملت السلاح كنت أتساءل عن السبب الذي يدفعني لذلك، وبقيت أناقش نفسي عدة أيام وفي نهاية المطاف بت مقتنعاً، أني لا أحمل السلاح للقتل، بل لأني أحب الحياة.

ولم أقف هنا، بل كنت أعمل طيلة الوقت على مساعدة الناس. صرت أدرك يوماً بعد آخر أن الشجاعة ضرب من التضحية، التي تتقدم على أي فضيلة أخرى. وكثيراً ما كنت أرى الناس المحاصرين وهم يساعدون بعضهم. لمست أشكالاً من التعاون والتعاطف لم أعرفها سابقاً، وبت على قناعة أن الحرب أظهرت أنبل ما فينا كبشر. كنا نتصرف على سجيتنا تحت الحصار وبراميل الموت وأسلحة الدمار الروسية، كما كشفت عن أبشع ما في النظام وحلفائه الذين جاؤوا من بلاد عدة لقتلنا على أرضنا.

بقيت المدينة طيلة أربعة أعوام يخيم عليها شبح الموت، وكنت أكبر وسط الجنازات. كل شيء يتلخص بالحرب. حياة رهيبة. كانت الكارثة جماعية، ولذلك كان رد فعل الناس تجاهها جماعياً. تقاسم المحاصرون الغذاء والماء والدواء، ولم يكن أحد يفكر بمصيره فقط.

فكرت طويلاً بالأمم المتحدة، ووقوفها على الحياد. تفصلها أمتار قليلة بين الضحايا والجلادين ولا تفعل شيئا. أظن أن حلب سوف تكون صفحة سوداء من سجل الأمم المتحدة مثلما كانت عليه سارييفو. هي تدرك أن الناس فقدوا كل أمل بمغادرة حلب، وهم يعيشون هنا بمعنويات محطمة بعد مئات الاجتماعات الدولية وسلسلة طويلة من الوعود، ومع ذلك يكتفي مبعوثوها بالكلام، وينفقون ملايين الدولارات في فنادق النظام في دمشق، وهذا ما تحدثت عنه الصحف الأجنبية.

بقي الناس يفكرون على نحو منطقي، ولذلك ظلوا يأملون حتى اللحظة الأخيرة بتدخل الأمم المتحدة أو القوى العظمى، لم يصدق أحد في نهار 28 نوفمبر/تشرين الثاني حين هرب من شرق حلب حوالي عشرة آلاف امرأة وطفل إلى مناطق سيطرة النظام والأكراد أن الولايات المتحدة ليس بوسعها مساعدتهم. كان الصمت الدولي حيال القصف التدميري لشرق حلب في الأسبوعين الأخيرين قاسياً على البشر الذين كانوا يبحثون عن مهرب من الموت أحياء تحت الأنقاض. صار موت الناس أمراً أرخص من التراب، تأتي الطائرة الحربية الروسية فترمي قنبلة واحدة بوزن نصف طن فتأخذ معها عمارة كاملة وتطمر ما فيها خلال ثوانٍ.

كان النصف الثاني من شهر نوفمبر/تشرين الثاني استثنائياً بالنسبة للناس الذين كانوا ينتظرون بلا أمل. الكل يعيش كما لو أنه في سجن ينتظره تنفيذ الإعدام، والفارق هو التوقيت. وفي ظل هذا الشعور القاسي كانت تأتي تأكيدات مندوب الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا من أنه يخشى "فناء" حلب قبل عيد الميلاد، وصار يحذر من قيام بشار الأسد بـ"سحق" المدينة.

نبوءة سوداء، لا تترك أي باب للأمل. فناء حلب. حين يسمع المحاصر هذه العبارة من قبل مسؤول دولي كبير لا يعود يحسب حساباً لشيء. إذا كانت الأمم المتحدة على هذا القدر من التشاؤم والانهزامية، فعلى من يعول ربع مليون محاصر 90 في المائة منهم نساء وأطفال؟


المساهمون