تكشف وثائق استخبارية نشرتها صحيفة الغارديان" البريطانية، وقناة "الجزيرة"، مدى ضراوة المعركة الدائرة بين الأجهزة الاستخبارية العالمية حول جنوب أفريقيا، وتحديداً حول الملف الإيراني النووي. معركة تشترك فيها أجهزة كل من إيران والولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا وغيرها. ومن بين ما تؤكده هذه التسريبات التي تشمل عدداً كبيراً من البرقيات المسربة، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "كاذب عالمي" بامتياز. وتكشف البرقيات التي نُشر ملخص عنها في نسخة "الغارديان"، أمس الثلاثاء، أن مزاعم نتنياهو التي ألقاها على مسامع قادة العالم في عام 2012 عن قرب امتلاك إيران للقنبلة الذريّة، غير صحيحة وتتناقض تماماً مع المعلومات المتوفرة لدى جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد".
وكان نتنياهو قد عرض في عام 2012 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة رسماً توضيحياً، يزعم فيه أنّ إيران كانت في ذلك الوقت على مسافة سنة واحدة من إنجاز مشروعها النووي وامتلاك القنبلة الذرية، داعياً العالم إلى ضرورة التحرّك لمنع إيران من امتلاك برنامج نووي يهدّد إسرائيل والعالم. في مقابل ذلك، يكشف مضمون تقرير سري، تبادله جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجية "الموساد" مع جهاز المخابرات الجنوب أفريقي، في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2012، أّن المعلومات المتوفرة للموساد تفيد بأنّ أنشطة إيران النووية لا تشير بالضرورة إلى إنتاج أسلحة، وهي غير جاهزة لتخصيب اليورانيوم على مستويات عالية تناسب إنتاج أسلحة نووية، لا سيّما أنّ إنتاج قنبلة ذرية يحتاج إلى يورانيوم مخصّب بنسبة 90 في المائة.
إقرأ أيضاً: وثيقة سرية تكشف تناقض تصريحات نتنياهو و"موساد" إزاء إيران
ويتزامن نشر"الغارديان" للوثائق السريّة مع توتّر في العلاقات بين نتنياهو والرئيس الأميركي باراك أوباما، على خلفية زيارة ينوي الأول القيام بها إلى واشنطن، الشهر المقبل، ويلقي خلالها خطاباً أمام الكونغرس، من المرجّح أن يكون مضمونه تحريضياً على إيران ومشروعها النووي، مع انتقاد للمفاوضات الجارية بين طهران والدول الكبرى. ويخشى البيت الأبيض أن تتسبّب المزاعم الإسرائيلية المبالغ بها حول البرنامج النووي الإيراني، بالإضرار في المفاوضات الحساسة التي تجريها إيران ودول السداسية الدوليّة، وخصوصاً أنّ نتنياهو أعلن في أكثر من مناسبة، سعيه إلى تعطيل أي اتفاق، يسمح لإيران بالاحتفاظ بقدراتها النووية.
وتحتوي الوثائق التي نشرت "الغارديان" مضمون عدد منها، على تقارير غير متتابعة أو منتظمة، تبادلها عملاء جهاز أمن الدولة في جنوب أفريقيا، المعروف اختصاراً باسم "إن إي إيه" (NIA)، بين عام 2006 وديسمبر/كانون الأول 2014، مع نظرائهم في وكالة المخابرات الأميركية والمخابرات البريطانية والمخابرات الروسية، وكذلك مع عملاء للمخابرات الإيرانيّة، بالإضافة إلى العشرات من أجهزة الاستخبارات الأخرى حول العالم، من آسيا إلى الشرق الأوسط فأفريقيا، بما فيها المخابرات الأردنيّة والإماراتيّة والعُمانيّة. ويتعلّق القسم الأكبر من الوثائق التي اطلعت عليها الصحيفة، بمراسلات بين جهاز "إن إي إيه" وجهاز "الموساد".
الاتصال بحماس
وتكشف إحدى الوثائق، وفق "الغارديان"، أنّ المخابرات الأميركيّة حاولت في عام 2012، فتح قنوات اتصال خلفيّة مع حركة "حماس" الفلسطينية، رغم منع الإدارة الأميركية لأي اتصالات مع الحركة. وفي محاولة للالتفاف على قانون الحظر الأميركي، لجأت وكالة المخابرات الأميركيّة إلى طلب المساعدة من نظيرتها الجنوب أفريقية. وتظهر الوثائق أن "سي آي إيه"، كانت تسعى إلى فتح قنوات اتصال مع "حماس"، أو تجنيد عملاء في قطاع غزة. ولتحقيق ذلك، التقى عملاء من الطرفين الأميركي والجنوب أفريقي في القدس الشرقيّة. وتشير برقية أرسلها عميل المخابرات الجنوب أفريقية في 29 يونيو/حزيران 2012، إلى أنّ عملاء "سي آي إيه"، كانوا مهتمين بفتح قنوات اتصال خلفيّة مع حركة حماس في غزة، وقد طلبوا مساعدة مخابرات جنوب أفريقيا لتحقيق ذلك.
وتتطرّق إحدى البرقيّات إلى التهديد الذي قيل إنّ أوباما وجّهه عام 2012 إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في حال أصرّ الأخير على تحدّي الولايات المتحدة، والتوجّه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بطلب قبول دولة فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة. وتؤكد البرقية الخاصة بهذا الموضوع حقيقة التهديد، الذي لم يستجب له عباس، بدليل توجّهه إلى الأمم المتحدة، بطلب قبول عضوية فلسطين كدولة مراقبة في المنظمة الدوليّة.
إقرأ أيضاً: من غولدستون إلى شاباس .. أيّ عدالة للفلسطينيين
وتكشف وثيقة أخرى الجهود الشخصيّة لرئيس جهاز "الموساد" السابق مائير داغان، للضغط على مسؤولين في مخابرات جنوب أفريقيا، وتحذيرهم من مخاطر تصويت بلادهم لصالح تقرير "غولدستون"، الذي أعدّه القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون، بعد التحقيق في جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل أثناء عدوانها على قطاع غزة نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009. ويحذر داغان الطرف الجنوب أفريقي من أنّ التصويت لصالح التقرير، يعني "ضربة لعمليّة السلام"، زاعماً أنّ عباس متحفظ على قبول المجتمع الدولي للتقرير، لأن ذلك سيقوي موقع حماس ويضعف موقفه. ويزعم داغان، وفق الوثيقة، أن هذه هي حقيقة الموقف غير المعلن للرئيس الفلسطيني من تقرير غولدستون.
وتؤكد "الغارديان" أنّ الوثائق التي تنشرها، تختلف عن التسريبات المنسوبة إلى إدوارد سنودن، وموقع ويكيليكس، إذ إن الأخيرة كانت تركز على برقيات استخباراتية إلكترونية يُشار إليها في عالم الاستخبارات بكلمة "سيغنت" (SIGINT)، بينما تعتمد برقيات التجسّس التي تنشرها الصحيفة على المعلومات التي يجمعها وينقلها البشر، وتُعرف بكلمة "هيومنت" (HUMINT).
نشاط إيران
وتكشف الوثائق عن الأهمية التي توليها أجهزة المخابرات والتجسّس العالمية لجنوب أفريقيا، إذ تسعى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإسرائيل وغيرها من الدول الغربيّة إلى تعزيز وجودها هناك، في مقابل التوسّع الصيني وتزايد تأثيره الاقتصادي. ومع أنّ الوثائق تكشف تركيز أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية على جنوب أفريقيا لتشديد الحصار على إيران والحدّ من نفوذها عبر العالم، ومنعها من تطوير برنامجها النووي، لكنّ المعلومات الواردة في تقارير المخابرات الجنوب أفريقية، تظهر أنّ جنوب أفريقيا لا تأتي ضمن المناطق ذات الأولوية لنشاط المخابرات الإيرانيّة التي تنشط أكثر في دول توجد فيها تجمعات شيعية مثل تنزانيا، وزنجبار، وإثيوبيا، ونيجيريا، والمغرب، والسنغال، وموريتانيا، والنيجر وغينيا.
كما تكشف الوثائق أنّ جهاز المخابرات الجنوب أفريقي، الذي رصد الكثير من الجهد البشري والمالي لملاحقة أنشطة إيران، لم يجد في تلك الأنشطة تهديداً حقيقياً. وقد تضمن أحد الملفات الذي أعدّته مخابرات جنوب أفريقيا، ويضم 128 صفحة، أسماء عملاء المخابرات الإيرانية، الذين يقيمون في جنوب أفريقيا، أو يترددون إليها، بما في ذلك معلومات شخصيّة ومعلومات عن طبيعة نشاطهم وخلفياتهم وأرقام هواتفهم وأرقام سياراتهم والأشخاص الذين يجتمعون معهم.
وتشير المعلومات الواردة في الملف إلى أنّ عملاء إيران، هم من الصحافيين ورجال الأعمال وأصحاب محلات بيع السجاد الإيراني، التي غالبا ما تُستخدم واجهات للتمويه، أو أماكن لعقد الاجتماعات، حسب ما جاء في الملف.