برغمان في القاهرة: شكوك وتجديد

14 فبراير 2019
مائة عام على ولادة إنغمار برغمان(فيسبوك)
+ الخط -
للمرة الثالثة في أشهر قليلة، تنظّم "سينما زاوية" في القاهرة عروضًا لأفلام المخرج السويدي إنغمار برغمان (14 يوليو/ تموز 1918 ـ 30 يوليو/ تموز 2007)، احتفاء بالذكرى المئوية الأولى لولادته. الأولى في الدورة العاشرة (8 ـ 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"بانوراما الفيلم الأوروبي"، التي تعاونت "زاوية" مع "شركة مصر العالمية" على تنظيمها، بدعم من جهات كثيرة، بينها السفارة السويدية في القاهرة، المُساعدة في عرض أربعة أفلام: "ذا سيفينث سيل" The Seventh Seal و"وايلد ستراوبيريز" Wild Strawberries (كلاهما إنتاج عام 1957)، و"برسونا" (1966) Persona و"سوناتا الخريف" (1978) Autumn Sunata. وبسبب النجاح الجماهيري، قرّرت "زاوية" تنظيم أسبوع خاص به بين 20 و26 يناير/ كانون الثاني 2019.

أما الثالثة، فكانت بين 7 و13 فبراير/ شباط 2019، بإضافة أربعة أفلام أخرى له: "ذات صيف مع مونيكا" (1953) Summer with Monica و"فاني وألكسندر" (1982) Fanny and Alexander و"ساراباند" (2003) Saraband، آخر عمل له. بهذا، غطّى الأسبوع 50 عامًا كاملة من أفلام وأفكار أحد أهم مخرجي السينما ومُطوّريها.
أبرز ما في هذا النشاط كامنٌ في أنّ مشاهدة الأفلام يوميًا، بترتيب إنتاجها ورقعتها الواسعة في الزمن (50 عامًا)، مناسبة لإلقاء نطرة مُقرّبة على أفلامه، ذات مستويين اثنين:
المستوى الأول يتمثّل بالمواضيع والأفكار التي انشغل بها طوال حياته، وعبّر عنها في أفلامه كلّها تقريبًا، تحديدًا منذ عام 1957، الذي يُعتبر محطة فارقة في سيرته، لفوزه حينها بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في الدورة العاشرة (2 ـ 17 مايو/ أيار 1957) لمهرجان "كانّ" عن "الختم السابع"، وجائزة "الدبّ الذهبي" في الدورة الثامنة (27 يونيو/ حزيران ـ 8 يوليو/ تموز 1957) لـ"مهرجان برلين السينمائي" عن "الفراولة البرية" (عرضا في برنامج "زاوية"). عندها، بدأ العالم يتعامل معه باعتباره من أهمّ مخرجي السينما، وأكثرهم تجديدًا واختلافًا، ما منحه حرية أكبر للتعبير عن هواجسه ومخاوفه في أفلامه اللاحقة، بدلاً من الانشغال بالجانب التجاري، كما في أفلامه الأولى.
أبرز تلك الهواجس هي الموت والدين، لتأثّره بوالده القسّ، وبالأفكار المسيحية عن الله والآخرة، وقد تربّى عليها طفلاً قبل أن تُثير فيه شكوكًا كثيرة لاحقًا، وكذلك العلاقة العائلية بينه وبين عائلته. وهذه موجودة في "برسونا"، مع شخصية إليزابيت الممثلة، التي تعاني علاقة مدمِّرة بابنها؛ وفي "سوناتا الخريف"، لكن بشكل أكثر مباشرة، بين الأم عازفة الموسيقى والابنة المضطربة؛ وأيضًا في "فاني وألكسندر"، المستَلْهَم بوضوح من طفولته وعيشه مع عائلته.



أما المستوى الثاني، فكامنٌ في ملاحظة تطوّر أسلوبه ولغته السينمائيين، اللذين يحتفظان بقوّتهما وأصالتهما منذ البداية. لكن اللافت للانتباه يظهر في كيفية تحوّل اهتمامه من التصوير الخارجي المكثّف نسبيًا (كما في "ذا سيفينث سيل" و"وايلد ستراوبيريز") إلى الحكايات والمواجهات الحاصلة داخل البيوت وفي الغرف؛ كما انتقل من التصوير بالأسود والأبيض إلى التصوير بالألوان، ما جعله يستخدم جماليات بصرية مختلفة ويتفوّق في ابتكارها: من النور والظلّ والتكوين إلى درجة استثنائية من الاهتمام بالديكور والملابس، وبكلّ قطعة لونية موجودة في كلّ "كادر". أفلامه المبكرة أكثر تعقيًدا، تغرق أحيانًا في استخدام الأحلام والترميز للتعبير عن دواخله ("وايلد ستراوبيريز" و"بِرسونا")، قبل انتقاله إلى سرد القصص ووضع حوارات أكثر مباشرة، وتقديم تفاصيل وإبرازها على السطح، وإحداث مواجهات لا تنتهي بين أبطاله، وأبرز صورة لهذا حاضرة في "سوناتا الخريف"، الذي يمتدّ مشهد يجمع إنغريد برغمان بليف أولمان إلى نحو 35 دقيقة، في مواجهة تكشف أحد أجمل الأداء الثنائي في السينما.
هكذا تتغيّر أساليب إنغمار برغمان في الصورة والسيناريو، وتبقى أفكاره وهواجسه مشتركة ومكرّرة، وهو أمر يُصبح أوضح مع المشاهدة اليومية للأفلام في صالة سينمائية.

دلالات
المساهمون