برامج الرُقية في القنوات الجزائرية..احتيال على المرضى والمشاهدين

16 يونيو 2016
مقر الشيخ فتحي لممارسة نشاطاته قبل القبض عليه(العربي الجديد)
+ الخط -

انتابت الأربعيني الجزائري عبد الكريم معوش، مشاعر الإحباط والصدمة، لدى علمه بأن الشيخ فتحي الراقي الذي اعتاد متابعة حلقاته التلفزيونية على شاشة قناة "بور تي في" الجزائرية، أصبح وراء القضبان في سجن وهران غربي العاصمة الجزائرية بتهمة النصب والاحتيال عن طريق ممارسة الشعوذة.

عقب مشاهدة الحلقة الثالثة من برنامج "رُقية ورؤيا"، الذي يُعرض يوميا بعد الإفطار قرر عبد الكريم القدوم من مدينته بجاية التي تبعد عن العاصمة 220 كيلومتراً للحصول على عنوان الشيخ فتحي، لحل مشكلة زوجية لازمته منذ سنوات، فقد تحدث الشيخ خلال الحلقة عن موضوع التفريق بين الأزواج عن طريق السحر، وهو ما دعاه لمحاولة الحصول على "حصة علاجية" كما سمّاها للتخلص من الأزمة التي يعيشها منذ خمس سنوات.


ارتفاع جرائم الرقاة المزيفين وغياب ثقافة الإبلاغ

وثّق معد التحقيق تسع قضايا شهدتها الجزائر العام الماضي صدرت فيها أحكام ضد ممتهني ما يسمى العلاج بالرقية، في تهم أهمها الشعوذة والاغتصاب والاحتيال ويعد الحكم الصادر في عام 2015 بإدانة شيخ يمارس الرقية، بالسجن ست سنوات بعد ارتكابه جرم اغتصاب ثلاث شقيقات وسلبهن قيمة معتبرة من المال، بمدينة سكيكدة الساحلية شرقي الجزائر، من أهم تلك القضايا وفقا لتأكيد مصدر أمني لـ"العربي الجديد"، ويشير المصدر إلى تسجيل 170 بلاغا أمنيا بحق رقاة مزيفين في عام 2014. وهو ما أرجعه الباحث في علم الاجتماع الديني، بومدين معاش، إلى التفكك الذي يعيشه المجتمع وارتفاع نسبة الجريمة وتضارب المرجعيات الدينية ما جعل الأسر والأفراد تقع فريسة الشعوذة والسحر من جهة، والنصب والاحتيال من مدعي ممارسة العلاج الديني من جهة أخرى. ويرى معاش أن حصيلة الاغتصاب والسرقة والاحتيال من قبل الرقاة المزيفين تتجاوز أضعاف المعلن عنها، نتيجة عدم تبليغ الضحايا في الغالب وتقبل الأمر وتجنب الفضيحة.

الرقية من وراء القضبان !

يكشف مصدر أمني لـ "العربي الجديد" أن جهاز الشرطة بمدينة وهران ألقى القبض على المدعو الشيخ فتحي، البالغ من العمر 32 سنة، والذي يتمتع بجماهيرية كبيرة في قناة "بور تي في"، بداية شهر مايو/أيار، بعد تلقي الشرطة بلاغا من مواطن وقع ضحية الراقي الذي يستغل سجلا تجاريا للتداوي بالأعشاب الطبية للاختباء خلف نشاطات مشبوهة، إذ حوّل المتهم مبنى من ثلاثة طوابق بالمدينة الجديدة في وهران غربي الجزائر، إلى عيادة خاصة تستقبل الزبائن بمواعيد مسبقة تصل إلى أشهر نتيجة الاكتظاظ، وذكر المصدر أن ضحية قدمت بلاغا بتعرضها لعملية نصب من الراقي المزيف الذي وعدها بالعلاج من مشكلة تعاني منها مقابل تسليمه 100 ألف دينار (ما يعادل ألف دولار) من دون أن يتغير وضعها، قبل أن يطردها الشيخ من العيادة الوهمية في أحد المرات بعد مطالبتها باستعادة مستحقاتها.


برنامج للرقية بـ 200 ألف دولار

يكشف المنتج التلفزيوني وحيد بن راجع، أنه تعامل مع الشيخ فتحي المتهم المقبوض عليه، إذ أشرف بن راجع على تسجيل حلقات برنامجه، قائلا لـ"العربي الجديد":"الشيخ فتحي اتفق مع قناة نوميديا الجزائرية، على بث المنتوج الإعلامي مقابل 20 ميلون دينار جزائري (ما يعادل 200 ألف دولار) قبل أن تلغى الصفقة في آخر لحظة بسبب خلاف حول شخصية المقدم الذي يرافق الشيخ في تقديم البرنامج والذي تربطه مشاكل مع القناة بينما رفض الراقي استبداله".

وأفاد المنتج بأن إعداد البرنامج تم على مدار 10 أيام كاملة، شاهد فيها مئات الزبائن يتوافدون على بيت المتهم، من كل مناطق الجزائر لأجل التداوي بالرقية كما يعتقدون، قائلا لـ"العربي الجديد":"صوّرت عشرات الجلسات للمترددين على الشيخ فتحي أملا في التداوي بموافقتهم أو موافقة أهاليهم، مع التعهد بإخفاء وجوههم".

ويرى بن راجع أن الراقي فتحي الذي ذاع صيته في غرب الجزائر أراد استغلال الشهرة التي حققها في ظهوره كضيف في برنامج تلفزيوني، والانتقال إلى إنتاج برامج لحسابه الخاص لكسب أموال إضافية، ويستدل منتج البرنامج بالأموال الكبيرة التي وثّق حصول الشيخ فتحي عليها من المرضى، إذ تصل قيمة العلاج في بعض الحالات إلى 200 ألف دينار أي ما يقارب ألفي دولار.


"رقية ورؤيا" يلقى متابعة كبيرة في رمضان

يعتبر المدير التنفيذي لقناة "بور تي في"، عدنان ملاح، أن شراء القناة لبرنامج "رقية ورؤيا" مقابل 200 ألف دينار للحلقة (ألفي دولار) صفقة ناجحة عقدها مع اقتراب شهر رمضان، الأمر الذي دفع الشيخ فتحي لبيع البرنامج بسعر أقل مما كان يطلبه، ويستدل ملاح على نجاح الصفقة، بوجود 356 مكالمة هاتفية موثقة في سجل استقبال الاتصالات في الأسبوع الأول من رمضان يبحث أصحابها عن الشيخ فتحي.

ويواصل ملاح حديثه لـ "العربي الجديد" قائلا: "إدارة القناة اشترطت قبل توقيع العقد أن تكون المشاهد حقيقية، من خلال تسلمها فيديوهات ومشاهد تظهر تفاصيل الجلسات، قبل أن تقوم بإخفاء وجوه أصحاب الحالات التي كانت أغلبها لأشخاص يشتكون مما يعتقدون أنه وجود سحر أو مسّ".

ويشدد أستاذ الإعلام في جامعة تيبازة غربي العاصمة الجزائر، حمزة هواري،  على أن هذا النوع من البرامج خطر على المجتمع إذ ينشر "الفكر الخرافي"، داعيا وزارة الاتصال إلى التنسيق مع وزارة الشؤون الدينية لمراقبتها، وإصدار مواقف صارمة لمنع الشعوذة واستغلال عواطف الناس في أهداف تجارية لا علاقة لها بالإعلام الجاد. إلا المدير التنفيذي لقناة "بور تي في" يرى عكس ذلك، ويذهب إلى حد القول "إن  برامج الرقية تعطي الأمل لأصحاب الحالات المستعصية بالشفاء لدى الشيخ فتحي أو غيره من الرقاة".



سوبر ستار الرقاة دخل السجن أكثر من ثلاث مرات

يُعد أبو مسلم بلحمر أحد أشهر الرقاة التلفزيونيين في الجزائر، إذ بدأ منذ عدة سنوات بالظهور إعلاميا في صفحات جريدة الشروق قبل أن ينتقل إلى تقديم برنامج "ففروا إلى الله" على شاشة الشروق، وهو ما ساهم في شهرة الرجل الذي كشف في أحد حلقاته المذاعة على تلفزيون الشروق أن مسؤولين كباراً في الدولة يقصدونه بهدف العلاج.

ورغم أن بلحمر الذي يلقب بـ "سوبر ستار الرقاة" في الجزائر، دخل السجن ثلاث مرات، إذ حكم عليه في عام 2013 من قبل محكمة الجنح بمستغانم غربي الجزائر بالسجن عاماً في قضية اتهم فيها بالنصب والاحتيال وممارسة غير شرعية للمهن الطبية، وممارسة نشاط مهني بدون رخصة، إلا أن الرجل عاد إلى الشاشة مرة أخرى ثم تحوّل إلى تأليف الكتب التي ينشرها مجمع الشروق الإعلامي المالك للقناة.

ويصر تومي عياد الأحمدي، مدير البرامج في قناة الشروق على نفي وجود مخالفة شرعية أو قانونية في محتوى برامج الرقية التي تبثها القناة، ويقول لـ"العربي الجديد":"إن هدف برامج الرقية بالنسبة لنا هو تصحيح انحرافات زادت في عهد الاستعمار". ويرد المسؤول في الشروق على اتهامهم بفتح الشاشة للمشعوذين بالقول "إن الحكم في النهاية سيكون للمشاهد الذي لا نفرض عليه شيئا".


مشعوذ يطلق قناة تلفزيونية

رغم أن دفتر الشروط (قانون إعلامي تنظيمي في الجزائر) والذي يحدد ضوابط إنشاء القنوات الخاصة، والذي صادقت عليه الحكومة بداية الشهر الماضي لم يتم تفعيله بعد، نتيجة عدم تنصيب سلطة ضبط السمعي البصري، "إلا أن عدة قنوات جزائرية خاصة استغلت حالة الفراغ الحاصلة وتم إطلاقها لتحظى بمشاهدة الجزائريين منذ مطلع عام 2012"، كما يقول الدكتور هواري، وفتحت هذه الوضعية الباب لجزائري يدعى ابن الشنفرة ويحمل صفة "عالم في السحر والجن" لإطلاق قناة الفجر التي تبث برامج الرقية والعلاج من السحر والشعوذة على القمر الصناعي "نايل سات" وفقا لما وثقه معد التحقيق ضمن رصده لمدعي العلاج بالرقية على شاشات القنوات التلفزيونية الجزائرية.

ويدافع وسيم عباس مدير القناة في اتصال مع "العربي الجديد" عن المادة الإعلامية للقناة قائلا "قناة الفجر محافظة وتسعى لمحاربة السحر والشعوذة من خلال برامج هادفة"، وينفي بالمقابل ما يشاع عن اتخاذ مالكها للبرامج الذي يقدمها وسيلة لجلب زبائن من خلال اللعب على عواطف المرضى وأصحاب المشاكل النفسية.

نقابة الأئمة تطالب بوقف برامج الرقية

يطالب الأمين العام للتنسيقية الوطنية للأئمة وموظفي الشؤون الدينية والأوقاف (نقابة عمالية)، جلول حجيمي، بإيجاد ضوابط لممارسة نشاط الرقية والعلاج الروحي، وإبعاد هذا النشاط عن الجانب التجاري، ويقول حجيمي في حديثه لـ"العربي الجديد" إن البرامج التي تعرضها بعض الفضائيات الجزائرية لجلسات الرقية فيها تدخّل في خصوصيات الأفراد من جهة، وإخلال بمقاصد الرقية، إذ تحول الهدف من تفريج كربة إلى محاولات للحصول على المال من المشاهدين، وفي ذلك "خروج عن الشرع" على حد قول حجيمي.

ويرى الأمين العام لنقابة الأئمة أن وقف هذه البرامج التي دخل بعض أصحابها السجون ضروري، ويربط حجيمي ذلك "بالامتثال لتعاليم الدين الإسلامي وتطبيقا لقوانين الجمهورية التي تمنع النصب والاحتيال في السر، فما بالك بالعلن".

وترجع المختصة في علم النفس منيرة قربوشي، انتشار الشعوذة وتحولها إلى وظيفة علاجية بالجزائر، إلى الخوف والرفض المجتمعي للتعاطي مع التشخيص النفسي وزيارة عيادات الطب المؤهلة لحل المشاكل النفسية. وتقر قربوشي أن الرقية الشرعية المنصوص عليها في تعاليم الدين استغلها المشعوذون لتعميم استعمال الدجل في علاج كل الأمراض النفسية التي توصل العلم إلى حلها عن طريق المنهج التجريبي أو التخفيف من آثارها، وتبدي قربوشي أسفها لوجود تحالف بين مشعوذين وإعلاميين لاستغلال مآسي الناس، حيث وصل الحد إلى إيهام أصحاب الأمراض العضوية الخطيرة كالسرطان بإمكانية العلاج على يد الدجالين.