برادات اللبنانيين وافتعال الصورة: سؤال عن أخلاقيات المهنة

27 يونيو 2020
نفّذ اللقطات أربعة مصورين في 5 مدن (فرانس برس)
+ الخط -

16 براداً فارغاً حُشرنا داخلها لكي "نعاين" حجم الانهيار الاقتصادي المتسارع الذي يعيشه اللبنانيون، في صور ممسرحة أرادت ابتكار فقر موجود أصلاً في كل زاوية من زوايا البلد الذي يقايض مواطنوه الكؤوس المزخرفة بـالحفاضات والحليب، والألبسة الولادية بالزيت والطحين.

الصور الـ16 جمعتها وكالة "فرانس برس"، يوم الأربعاء، كجزء من تقرير بيّنت فيه تآكل القدرة الشرائية للبنانيين وعجزهم عن ملء براداتهم بالطعام، وسط الانهيار الاقتصادي المتسارع الذي أدّى إلى انهيار العملة المحلية وموجة الغلاء غير المسبوقة وأزمة السيولة وشحّ الدولار وخسارة المداخيل واضمحلال الطبقة الوسطى في بلد يعيش نصف سكانه تحت خط الفقر.

نفذ اللقطات مصورو "فرانس برس" محمود زيّات وجوزيف عيد وإبراهيم شلهوب وأنور عمرو، من العاصمة بيروت ومدن جونية وجبيل وطرابلس شمالاً وصيدا جنوباً. لكن الناظر إليها يظن أن مصوراً واحداً التقطها؛ امرأة أو رجل أمام براد فارغ إلا من ربطة خبز أو قنينة مياه أو حبات خيار معدودة.

ولن يحفظ مطالع الصور ملامح أيّاً من الوجوه فيها، فالأشخاص بدوا كلهم شخصية كاريكاتورية واحدة، أو مجرد أكسسوارات، فُرضوا على اللقطات الممسرحة علّهم يضيفون إليها بعضاً من حياة، لكنهم تحولوا إلى مجرد مشتتات ودخلاء في وجوهنا نحن المتلهفين لحشر أنفسنا داخل البرادات. في المقابل، كلّ براد فارغ كان فارغاً على طريقته، إن بحجمه أو لونه أو نوع الأغراض المعدودة فيه، أو لون الحائط خلفه، أو الكرسي المهمل إلى جانبه.

هذه اللقطات المفتعلة، المأخوذة بقرار تحريري موحَّد عُمِّم على أربعة مصورين، سلبت الصوت من أصحابها الذين بدوا مجرد مؤدّين رغم حقيقة معاناتهم، وأصبحوا هم الأشياء والأدوات المسخَّرة لمنفعة الكاميرا والبرادات محور الصور.

انتشرت الصور على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي في البلاد، واستخدمها متداولوها للتدليل على حجم الانهيار. لكن إن استبعدنا النية الحسنة التي كانت الوكالة الفرنسية والمصورين والصحافيين والناشطين الذين تداولوا الصور مدفوعين بها، فهل من الجائز أخلاقياً مسرحة لقطات في التصوير الصحافي؟ وهل تخطت الخيط الرفيع بين "إثارة التعاطف" و"بورنوغرافيا الفقر"؟ وماذا تعني مثل هذه اللقطات للمصور الذي يفترض أنه يملك "عيناً" فنية لا تشبه "عين" زميل آخر؟ خاصة أن الوكالة الفرنسية لم تكن مضطرة إلى ابتكار أزمة تطل من كل شارع في البلد. فالفقر هنا لا يحتاج إلى مسرح ومخرج بقرار تحريري ولقطة مفتعلة. فقط ادخلوا إلى أي محل تجاري وانظروا إلى عيني الزبون المذعور وسلته الفارغة.

أستاذة "قانون الإعلام وأخلاقياته" سابقاً في "الجامعة اللبنانية الأميركية"، ياسمين دبوس، أكدت في حديثها لـ"العربي الجديد" أن سؤالاً أخلاقياً يُطرح عن الصور، لأنها تستخدم الأشخاص كمؤدين لإنتاج لقطة ممسرحة غابت عنها العفوية أو كأدوات لإيصال رسالة معينة، معتبرة أن استبعاد الأشخاص أو تغطية وجوههم على الأقل كان سيكون أقل "دراماتيكية".

ما تحدثت عنه دبوس يُعتبر ركيزة التصوير الصحافي لدى وكالات الأخبار والمؤسسات الإعلامية العالمية التي تمنع مصوريها من "مسرحة أو اختيار وضعية أو إعادة تسيير الأحداث"، وسمّاها البروفيسور بول مارتن ليستر "القاعدة الذهبية"، في كتابه "التصوير الصحافي: مقاربة أخلاقية" (1991)، وتُختصر بسؤال واحد: هل عامَل المصور الأشخاص في صوره كما كان سيعامل نفسه؟ طبعاً، هذه المقاربة تترك القرارات خاضعة لأخلاقيات المصور أو المؤسسة حيث يعمل، لكنها تذكر بأن من واجب المصورين الصحافيين الحفاظ على "إنسانية" من يصورونهم وعدم استغلال الأشخاص الأكثر هشاشة (فقراء، أطفال، نساء، عاملات جنس، مدمنو مخدرات) لمصلحة اللقطة.

القواعد هذه تجاهلها المصورون الصحافيون حول العالم في أحداث عدة، وبينهم مثلاً المصور الفلسطيني الشاب خالد الصباح الذي التقطته عدسة كاميرا، عام 2016، وهو يوجه طفلة في بروكسل ويطلب منها تنفيذ حركة معينة وإعادتها، ليلتقط صورتها في أثناء إقامة مراسم حداد بعد الاعتداءات الإرهابية التي ضربت المدينة. وفي مثال آخر أكثر فجاجة، ما فعله المصور الصحافي الإيطالي، أليسيو مامو، في صور عنونها بـ"أن تحلم بالطعام" Dreaming Food. في خمس صور غطى مامو عيون أطفال مُعدمين في الهند، بينما فرش أمامهم مائدة عامرة بالأطعمة والمشروبات الفاخرة الزائفة، وقال لهم: "احلموا بالأطعمة التي تتمنون أن تكون على طاولاتكم" أو في براداتكم ربما.
المساهمون