24 أكتوبر 2024
براءة مبارك... محاولة "مسخرة" حدث عظيم
بعد ما يقرب الست سنوات، تبين للقضاء المصري أن الرئيس الأسبق حسني مبارك، بريء من جريمة قتل المتظاهرين الذين سقطوا خلال ثورة 25 يناير، وقبله تبين للقضاء نفسه، براءة وزير داخليته، حبيب العادلي، من الجريمة نفسها. فليس هناك أي أدلة على علاقة أي منهما بإطلاق النار على المتظاهرين على مدى أيام الثورة مطلع العام 2011، فاستحقا البراءة من القضاء المصري النزيه والعادل الذي لا يُبقي مظلوما في السجن، والمظلوم هذه المرة بتهم باطلة حسني مبارك.
ما يريد الحكم القضائي النهائي قوله أبعد من إدانة رأس النظام ومعاونه القمعي أو براءتهما، إنه يريد أن يقول إن ما حدث في مصر في ذلك الوقت لم يحدث أصلا، لم يكن هناك قمع ولا إطلاق نار، ولم يكن هناك ضحايا لهذا القمع سقطوا بنيران أطلقتها الشرطة المصرية، ولم يكن هناك ثورة أو احتجاجات على نظام سياسي قهر المصريين وأذلهم عقودا. ما نعرفه، أنا وأنت، عما جرى في مصر مجرد وهم في رأسي ورأسك، أما في الواقع فلم تجرِ أيٌّ من هذه الأحداث التي تخيلناها، لم تكن هناك حشود في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر كسرت حاجز الخوف، وقالت كفى للاستبداد المديد، ولم تواجه السلطة الاحتجاجات بإطلاق النار على المتظاهرين، كل ما جرى وشاهدناه كان وهما، أو افتعله خيالنا المريض.
انتظرْ، هناك سؤال أهم: هل كان هناك متظاهرون حقا حتى يتم إطلاق النار عليهم؟ يبدو أنه لا علاقة للأوراق التي أمام المحكمة، حُوكم على أساسها الرئيس، ومن قبل وزير داخليته، بما جرى في تلك الأيام الرهيبة من تاريخ مصر الحديث، أوراق تتحدث عن أحداث أخرى لم تقع، أو أن التاريخ المصري لم تقع فيه ثورة يناير، أو يمكن أن يكون القانون المصري مختلفا عن كل قوانين الدنيا، ولا يوجد فيه مادة قانونية، تُحمّل الرئيس مسؤولية أفعال مرؤوسيه، بالمعنيين القانوني والجنائي، وليس فقط بالمعنى السياسي.
هذا الحكم مهين بحق المصريين، وبحق ثورة 25 يناير، وبحق الضحايا الذين سقطوا دفاعا عن حريتهم، وبحق التاريخ المصري. ومن خلاله، يظهر مدى فساد القضاء المصري ولا أخلاقيته، وقد أفسده مبارك نفسه. إنه ليس معاديا للمصريين وقضاء فاسد وغير نزيه فحسب، بل هو معادٍ لأحلامهم وتاريخهم، وللحظة تاريخية عظيمة في التاريخ المصري أيضا. وقضاءٌ على هذه الشاكلة هو امتداد لسلطة سياسية قائمة اليوم، هكذا تنظر إلى التاريخ المصري الحديث، تنظر إلى ثورة 25 يناير بوصفها لحظة خطيئةٍ، قام بها المصريون، لا تريد أن تراها، وتريد تكنيسها تحت الأحداث الجارية الآن في مصر من إفقار متسارع وقمع حرياتٍ وتحطيم أحلام، وبوصفها استمراراً فعلياً وموضوعياً لسلطة مبارك، قطعتها ثورة 25 يناير فترة قصيرة، لكنها لم تستطع أن تكسر استمرار الاستبداد الذي عاد بانقلاب عسكري، والذي يحاول أن يقول إن الاستبداد هو الوضع الطبيعي لمصر، وإن المستبد عندما يرتكب جريمةً بحق مواطنيه، فهو لا يقوم بجريمةٍ، إنما يمارس حقه الطبيعي في التصرّف برعيته، خصوصا أن حكاما آخرين في العالم العربي ما زالوا في السلطة، على الرغم من أنهم لم يطلقوا النار على شعبهم فحسب، بل قصفوه بالطائرات، وألقوا عليه أسلحة كيمياوية، ومارسوا ممارسات إبادة وتهجير جماعي أيضا حالة النموذج السوري.
هذا الحكم القضائي، وكل ما يقف وراءه من محاولات السلطة في مصر تحويل ثورة 25 يناير إلى حدثٍ نافل. وكل السياسات والمشكلات والكوارث التي تلقى على الحدث من أجل إخفائه عن الساحة السياسية المصرية، أو بوصفه حدثا جلب الكارثة على المصريين، وشيطنته، لن تنجح في كسر مكانته، بوصفه ثورة عظيمة وطموحا مشروعا للحرية في مواجهة الاستبداد. وإذا كان قد تم اغتيال الثورة بما جرى من أحداث لاحقة، فهذا لا يغيّر مكانة الثورة، ولا يلغي حلم الحرية عند المصريين ولا يكسره. ولا يغير من مكانة ثورة 25 يناير بوصفها مفصلا تاريخيا، ليس في التاريخ المصري فحسب، بل في تاريخ المنطقة أيضا.
يحاول هذا الحكم القضائي تحويل ثورة 25 يناير من كونها حدثا عظيما في التاريخ المصري، إلى واقعة ساخرة فيه. فأن يكون هناك جريمة بلا مجرم، وأن يكون هناك ضحايا ولا قاتل، وأن يكون هناك جريمة ارتكبت، ليس جريمة فردية، بل جريمة بحجم وطن، ويبرّأ فاعلها علنا، وليس من وراء الستار، هو محاولة لكتابة التاريخ المصري، بحبرٍ آخر، حقنه مبارك نفسه في شرايين الدولة المصرية. صحيح أن الرجل خرج من الحكم، لكن حبره ما زال يسيل، محاولا تدمير الحدث العظيم بكل السبل.